صحيحٌ أننا لا نكتب إلاّ إذا فكرنا في القارئ، غير أن هذا الآخير ليس شخصا أخر غيرنا، إننا نكتب لأنفسنا، نكتب لذاتنا الثانية، تلك الذات التي تمنحها الكتابة حياة مضاعفة. أكثر الكتابات صدقا، هي الكتابة الموجّهة للأنا، أو قل الكتابة/الاعتراف، وهذا النمط من البوح ليس رسالة أو خطابا. إنها لكنةُ صدى الذاكرة أو رنّةُ الذبذبات التي تصدرها فاعلية الزمن وهي تنهشُ المسافة الفاصلة بين ما يقوله المؤلف وما لا يمكن أن يقوله.
هنا يصير الكاتب هو القارئ الوحيد القادر على التقاط نصّه على ذبذبات الزمن المتشظي/ زمانيات الذات، وكل محاولة لإنتاج قارئ نموذجي ماهي إلا رغبة محجّبة في استنساخ آناه، والبحث عن إمكانية نشر غسيله المعتّق على خيوط المماثلة.
فما الذي يفصل الكاتب عن القارئ؟ أو بعبارة أوضح أين ينتهي الكاتب وأين يبدأ القارئ؟
- النصّ، هو عقدةُ تقاطعِ بين اثنين، بين من يكتب ومن يقرأ.
- النص، فضاءُ المــُباينة بامتياز وركحُ فنانٍ يلعبُ دورين.
- النص، حياةٌ مضاعفة ... لا توجد فيه (أي النص) حدود فاصلة بين الكاتب والقارئ، إنه اسم أخر لإمكانية حضور الإثنين في حيزٍ زمكاني واحد.
فيلم " أندرومان من دم و فحم " قراءة تحليلية لمفارقات المغرب العميق ـ عبد الجبار الغراز
قبل الشروع في تقديم هذه القراءة التحليلية لمفارقات المغرب العميق كما يتمثلها ، إبداعيا و فنيا ، فيلم " أندرومان من دم و فحم " لمخرجه عز العرب العلوي ، أود أن أشير أن هذا الشريط السينمائي الرائع يتناول قضايا الاقصاء و التهميش في أبعادهما الإنسانية و الروحية بطريقة تتحاشى الابتذال ، غايتها هو أن تسلك طريق التعبير الجمالي البسيط الذي ينفذ خطابه في القلوب دونما حاجة إلى تكلف في التعبير الدرامي ، مدفوعا برؤية المخرج الخاصة لظواهر و كوامن الأشياء .
وهذه الملاحظة الأولية تجعلنا نعتبر أن اختيار عز العرب العلوي " اندرومان من دم و فحم " كعنوان لفيلمه كان اختيارا صائبا ، لأن ذلك يعني ، في نظرنا ، إقامة علاقات تقابلية بين الطبيعة من جهة و الإنسان و ثقافته الموروثة من جهة أخرى . فينبغي التذكير أن " أندرومان " هو اسم يعني الشجرة باللغة الأمازيغية ، و في نفس الوقت هو اسم لفتاة أمازيغية شاء لها قدرها أن تلعب، منذ ولادتها ، دورا ذكوريا استجابة لأعراف و تقاليد بالية نجدها قد أقصت النساء في المجتمع الأمازيغي من الحق في أراضي الجموع .
. أما اختياره لمنطقة بولمان القابعة في أعالي قمم جبال الأطلس ، فإنه يعني ذلك اختيار فضاء يغري بجمالياته الطبيعية الخلابة ، و يكشف عن أسرار يحبل بها وسط اجتماعي و ثقافي معبر عن مغرب عميق .. مغرب المفارقات و العجائب ، حيث تطفو على مسرح الأحداث الوضعية المزرية للمرأة القروية ، و كأنه بذلك يضعنا ، كمتلقين ، في مفارقة جامعة بين الحس الجمالي و القساوة كما نسجتها منذ قرون أعراف و قواعد سلوكية بالية .
بلاغة الصمت في الكتابة الشعرية ـ أبو إسماعيل أعبو
سؤال الشعري توليف دلالي بين سؤالين مبدئيين، يشفان عن شفافية العلامة في تراصفها النصي، وكثافتها الإيحائية في تراحبها التأويلي، عن الكتابة ومسرب حركية صيرورتها الاختلافية، عن اللغة الشعرية وتنائيها عن ذاتها في استيعاء ترميزاتها.
فما هما هذان السؤالان؟
أولهما، سؤال "الكلام" الذي يقصر ذاته على ما تدل عليه الدلائل الألسنية بدوالها ومدلولاتها، التي ينتظم وفقها النسيج اللغوي الناظم للقصيدة الشعرية.
ثانيهما، سؤال "الصمت" الذي يرين بداءة على بياض الصفحة، قبل أن يقرن بجماع المكتوب وسواده خالقا فراغات دلاليا وتشكيلات فضائية.
إنه توليف بين سؤالين يكتمنان وعيين لاينفكان عن جدل خصيب:
- فهنا الوعي الشعري الذي هو وعي التجلي، والاقتران بما تسرد كتابة من عناصر التجربة الفنية.
- وهناك الوعي التأويلي الذي هو وعي الخفاء، والاقتران بهامش الكتابة الشعرية وأمدائها المتمادية.
فهذا وذاك يستوصلهما سؤال الشعري في تجليهما المصرح والمضمر استيصالا حواريا، يحدو بالكتابة إلى تجاوز مبدإ الهوية الثابتة، ومبدإ تطابقها مع ذاتها، بل يحدو بها إلى قول ما لم تقله في صيرورة اختلاف لا تؤول بتاتا إلى النفي، ما دام السؤال في استرسالها يستثير حركية سؤال آخر، فيما هو يستثير حركيته الذاتية، فيبدوان وكأن الواحد منهما يبجس الآخر ويفتحه على أمداء استعارية لم يقاربها من قبل.
الشاعر أمل دنقل أيقونة الرفض والمفارقة ـ محمد علي عزب
هذه الدراسة النقدية صدرت فى كتاب للكاتب بعنوان " الشاعر أمل دنقل أيقونة الرفض والمفارقة " ، والكتاب صادر عن دار العماد ومركز عماد علي قطرى للنشر والتوزيع القاهرة 2014م ..
(1) السيرة الذاتية للشاعر أمل دنقل:
ولد الشاعر المصري العربي الكبير محمد أمل دنقل فهيم محارب في 23يونيه سنة 1940م بقرية القلعة ـ مركز قفط ـ محافظة قنا، وقد حصل والده على شهادة العالمية من الأزهر الشريف في السنة التي وُلِد فيها أمل فسمّاه بهذا الاسم تيَمُّنَّا به، وكان الوالد هو الوحيد فى قرية القلعة الذى حصل على تلك الشهادة فى ذلك الوقت، وقد مات سنة 1950م وقد كان أمل أكبر الأبناء هو المسؤول عن الأسرة في ذلك السن، وبعد أن أنهى أمل دنقل دراسته الثانوية اضطر للعمل في شركة أتوبيس الصعيد بقنا وفى ذلك الوقت راسل بعض المجلات والصحف لنشر قصائده وبالفعل نشرت له مجلة صوت الشرق قصيدتى "راحلة" و "سأحمى انتصارات الشعب" فى شهرى يونية وستمبر سنة 1958م، وانتقل أمل دنقل للقاهرة مع عبد الرحمن الأبنودى ويحيّ الطاهر عبد الله وعبد الرحيم منصور سنة 1959م، ولكن أمل لم يحتمل قسوة الحياة فيها فعاد اٍلى قنا واستقر بها عام ونصف، ثم سافر أمل اٍلى القاهرة سنة 1962م مرة أخرى ومنها انتقل اٍلى الإسكندرية وبدأ دراسة الأدب العربي فى جامعة الإسكندرية لكنه لم يواصل وانتقل اٍلى السويس ليعمل فى مكتب مقاولات هناك، ثم ترك السويس وانتقل اٍلى القاهرة ليعيش بها وفى شهر ستمبر 1979م بعد تسعة أشهر من زواجه هاجم مرض السرطان جسد أمل دنقل للمرة الأولى وأجرى الدكتور اٍسماعيل السباعي عملية جراحية في مستشفى العجوزة لاٍستئصال الورم وأخبر أمل أنه اٍذا مرت خمس سنوات قبل أن يظهر الورم مرة أخرى فاٍن شفائه من المرض سيكون مضمونا، ولكن المرض لم ينتظر وظهر ورما آخر وكانت الجراحة الثانية فى مارس 1980م، وحاول أمل أن يتجاهل هذا المرض ويتناساه عن عمد حتى هاجمه السرطان بشراسة فى فبراير 1982م وكان لا بد من دخول أمل المعهد القومي للأورام وأقام أمل دنقل فى الغرفة "8" حتى وفاته فى 21 مايو سنة 1983م.
الخصائص الدلالية والجمالية في "الحرف الثامن"،للشاعر بوعلام دخيسي ـ سعيدة الرغـيوي
(( في زمن نحن أحوج ما نكون فيه إلى الإرتواء،إلى التخلص من عنت الحياة ورتابتها، يكون الشعر هو الملاذ والملجأ...)).
شبـه تقديـم:
إذا كانت لغة الضاد الرشيقة حروفها الثمانية والعشرون قد تميزت بكل صورها وإيقاعاتها وجمالية رسمها، فإن لـ: " بوعلام دخيسي"[1]، " الحرف الثامن"[2] الذي أفرده لجملة من النصوص الشعرية عددها 37 نصا.
تناسلت الحروف تِباعاً مُعلنة عن خلخلة شعرية، ليُباغثنا "الحرف الثامن" وهو الإبداع الشعري الثاني للشاعر.
الحرف الثامن هو العنوان الذي وَسَم به الشاعر نِتَاجَه الإبداعي،وقد جاء عبارة عن مركب إسمي( صفة وموصوف) متبوعا بنقط الحذف التي تختزل ثغرات سكت عنها الشاعر أو تركها قصدا للمتلقي لتيولَّى مسؤولية تأويلها انطلاقا من قراءاته الواعية، والحرف إذا ما عُدنا إلى لسان العرب"لابن منظور"ج.حروف و أحرف، والحرف لغة : طرف كل شيء وشفيرهُ وحَدُّه، كما يعني أيضا اللغة واللهجة ومنه الحديث الشريف: " نزل القرآن على سبعة أحرف" ...،أما الثامن،فهي صفة عددية دالة على الترتيب محصورة بين العدد سبعة وتسعة ( تمييز عددي)...ولتلافي كل الغموض والمتاهة التي قد يخلقها العنوان لدى القارئ أرفقه الشاعر بصورة " أيقونة " لعازف على آلة موسيقية" القيتارة" ،ولعل انتقاء الشاعر لهاته الصورة تعبير منه عن موسيقية الحرف الشعري،الشيء الذي حذا بنا للتساؤول عن طبيعة العلاقة التي تربط العنوان بالصورة؟.
التلازم الوثيق بين الأدب و اللسانيات : الشعريات البنيوية ـ ذ. مراد ليمام
تستهدف هذه الدراسة الكشف عن علائق الأدب واللسانيات بكيفية ضمنية ، وخاصة علاقات الدراسات الأدبية بتحليل الخطاب. فلقد استطاعت اللسانيات أن تحقق شرطي العلم الأساسيين:
تحديد الموضوع، وصياغة المناهج الملائمة لدراسة الموضوع قصد استنباط القوانين وإرساء القواعد الضابطة لمضمار هذا العلم. إذ تناسلت النظريات، وتميزت اتجاهاتها، تحدو أصحابها الرغبة في الاستئثار بمنهج يدلل صعوبة وصف نظم الأسس وصفا علميا. "ولعل ذلك ما يبرر الاحتفال الكبير الذي حظي به علم اللغة في مضمار النقد الأدبي. قياسا بالعلوم الإنسانية المختلفة، لاشتراكها في الاهتمام ب (اللغة) سواء باعتبارها منظومة تجريدية أم باعتبارها ممارسة كلامية، ورفد علم اللغة للنقد الأدبي بمفاهيم وقوانين لغوية مدققة. مما أتاح إمكانية تمييز خصوصية الخطاب الأدبي والنصوص الأدبية"[1].فالتفكير في الأدب يستحيل دون التفكير في اللغة. فيكون المجال الذي تقترب فيه اللسانيات من الأدب هو تحليل الخطاب الأدبي، عندما تريد إنارته بالبحث المفصل عن وسائل التعبير التي دبج بواسطتها. كما يتمثل الهدف في صياغة فرضية تفسيرية أو تأويلية حول الخطاب الأدبي وبيان كيف أن الوسائل اللسانية تدعم التفسير أو التأويل .
إن الخطاب وعلم تحليل الخطاب هو ممثل هذا المشغل الذي يتخذ من اللسانيات منطلقا، ومن الأعمال الأدبية مادة للدرس للخروج بنظرية في الخطاب الإبداعي على أسس ثابتة.
من هذا المنطلق، تسعى اللسانيات –وهي تطمح- أن تكون علما في تناول كل ما يخص الخطاب الأدبي، إلى تحديد ثلاثة عوامل على الأقل:
سفر شعري لاكتشاف " شعراء فرنسيون من القرن التاسع عشر" من إعداد وترجمة سعاد التوزانــي ـ سعيدة الرغيوي
إذا كان فهم اللغة وإتقانها هو السبيل للإطلاع على ثقافات وآداب الشعوب الأخرى،فإن الترجمة أيضا تبقى مفتاحا ولو نسبي للعديدين لتذوق النتاجات الأدبية التي ليست لديهم إمكانية الإطلاع عليها.
تمهيد :
((في رحلة أثيرية عُنوانها الشعر والسيرة،ارتحلت بنا الشاعرة والمترجمة "سعاد التوزاني"* إلى عبق الحرف الفرنسي المدبج بلغة عربية رقراقة،ترجمتها روحها الشفيفة،فأنكتبت سطورا شعرية مُتَرْجمة بين دفتي كتاب موسوم بعنوان:" شعراء فرنسيون من القرن التاسع عشر/ سيرة وشعر" **.
فوجدتني أستحث يراعي وروحي للسفر معها في ما أعدته وترجمته)).
============================================================
أن تُترجم من لغة إلى أخرى،وأن تتفوق في ذلك،يستلزم منك ذلك أن تكون متمكنا من اللغة ،خبيرا بدهاليزها،قادرا على مرواغتها،ممتلكا ناصيتها.
هي جولات مع بعض الشعراء الفرنسيين في باحاتهم الشعرية وسيرهم بدء بـ:" بألفونس دو لامارتين" وانتهاء بألبير سامان"،لقد حاولت" المرتجمة أن تقربنا من سيرة وشعر عشر شعراء كانت لهم بصمتهم في الشعر الفرنسي خلال القرن التاسع عشر.
في مفهوم الخطاب ـ مراد ليمام
كل رحلة استكشافية – في محاولة لضبط مفهوم الخطاب وتحديد مؤشراته القياسية - ارتحال دائم ومطرد عبر الاتجاهات والمقاربات المعرفية المتنائية. إذ أن هذا المفهوم وهو يترسخ ويستنبع أصوله ومقولاته من اللسانيات الجنيفية ( سويسرا)، لم يلبث أن تشقق إلى اتجاهات وانتظم له ركم من المصطلحات يشتغل بها، وتناءت حدوده ومفاهيمه ضيقا واتساعا تبعا للمنطلقات الفلسفية والاجتماعية والثقافية التي كان حبل السرة بينها وبينه موصولا.
فمن خلال تعاملنا مع الخطاب، لا نغالي إن قلنا أنه في اغتراب دائم عن جسده المصطلحي، فله في كل أرضية لغة مخصوصة. والمفهوم الحقيقي له هو مشروع مفهمة نسبية، فالخطاب الذي نتكلمه ونحيا به وفيه ، عبارة عن سراب يكتنفه الغياب والنقص.
ولعل هذا الأمر ، جعلنا نحدو حدو جيل دولوز ( Gille Deleuze) حين قوله : " لا وجود لمفهوم بسيط، كل مفهوم يملك مكونات، ويكون محددا بها، للمفهوم إذا رقم، إنه تعددية، حتى وإن لم تكن كل تعددية مفهومية " [1]. إن المفهوم بحسب التعريف كل متشظ يحيل بدوره إلى مفاهيم أخرى . فالخطاب عامر بأسر متنوعة من المفاهيم الناقصة، شبه المنفتحة، المعروفة، والمحدثة . والطريقة الوحيدة لفهمه هي متابعة مسيرتة والتقاءه اختلافيا بعد كل حالة ينخرط فيها .والمهم في كل حالة هو أن يستوفي عناصره، بحيث أن كل تغيير يطرأ في الزيادة أو النقصان يغير من كثافته عينها. فما يحتويه من مركبات وما يصاحبه من علاقات مع غيره هو بالضبط ما يحدد شبكيته الاصطلاحية.