1 ـ مفتتح :
" تُقدم الأرض ما يكفي لتلبية حاجات كافة البشر، ولكن ليس بما يكفي جشع كافة البشر "
(المهاتما غاندي )
الرواية، " سراديب النهايات " بمتوازيات / مسارات ثلاث، حكاية / حكايات الإنسان العادي البسيط الذي يصنع من أيامه ولياليه، بجهده وعرقه وصبره، بحبه وطيبوبته مسارا لحياة تنهض على إشاعة الدفء والحب.. كما أنها حكاية / حكايات الآخر، نقيض الأول، الذي يأكله الجشع والطمع، ويستبيح حرمة وأسرار الآخرين والذي يصنع من أيامه مسارا موازيا يتخندق بداخله ويسير بعينين جاحظين غير منتبه للنفق الذي ينتظره في نهاية المسار.. مسار ثالث لا يتدخل فيه الكاتب، بل يضع خطوطه العريضة بذكاء وتمرس وهو يسير بالحكي نحو النهايات، ليترك للقارئ أن يصنع له مسارا يبدأ منه عند نهايات الحكي..
مظفر النوّاب : تمزّقات ارواح الحروف المدوّية ـ د. حسين سرمك حسن
يبدأ الإفصاح الأنثوي الحيّ في قصيدة "حجام البريس" من خلال ازدحام الخطاب بالمفردات الأمومية وبالعتاب المُحب الأخّاذ .. الذي يتسع كموجات صادمة - وبالمناسبة فإن قصائد مظفر ككائن مائي مفعمة برشاقة اتساع الموجات المائية حين نرمي حجرا في ماء النهر ، لكن ليس في مركزه بل قريبا من شاطئه . وتتكرّر هذه الظاهرة حين يتكرر حرف "الحاء" بحرقته المؤصلة الساخنة التي تلهب حنجرة الروح في عمقها الذي يسخن نياط النفس التي لا تستطيع نسيان جرعة الحليب الوجودية المنعمة .. ولكن الأهم هو أن حرف "العين" كحرف روي يقف من جديد . وهنا تبدو زفرة النقمة مستكملة من خلال نفثة الآه الحارقة كأنها تبغي تحقيق الخلاص . وهذه الحرقة تتأكد من خلال التناوب الخلّاق الذي تشهده الأبيات الأخرى بين حرفين يجمعهما التوليد النغمي الموسيقي ، لكن لم يحصل على يدي أحد من شعراء العامية أن يوظف هذا التناوب لتجسيد المضمون المحتدم "حرفيّا " ، تجد هذا في تناوب حرفي "الحاء" و"الجيم" في كلمات متعاقبة مثل : جرحها والجرح والحليب والحچي :
جوزف حرب : (1) زرتك قصب .. فلّيت ناي ـ د. حسين سرمك حسن
على عتبة العنوان :
--------------------
" زرتك قصب .. فلّيت ناي " هو عنوان الديوان الأخير للمبدع " جوزف حرب " ، وهو عنوان يغيّب انتباهة المتلقي بتماسكه الجمالي المحكم .. بحركة المفارقة التي تتشكل على عملية التضاد بين القصبة الجامدة الصماء وآلة الناي الصادحة الناطقة . وكأن عملية " إحياء " جديدة تحصل على يدي المحبوب الذي " نفخ " الروح في جسد الشاعر ما أفتتح به مولانا جلال الدين الرومي عمله الرائع " المثنوي " من حديث فلسفي رائع عن الناي : ( أصغ إلى الناي واسمع ما يحدثك به . ما ذلك الشيء الذي يصدر عن الناي فيستبد بنفسك ، ويتخلل وجدانك ؟ " . ثم يعطينا مثالا : الناي ، تلك القطعة من القصب التي قُطعت من أصلها ، له قصّة يريد أن يحكيها . إنه مجوّف ، قلبه فارغ ، لكنه إلى جانب هذا الفراغ ، صُنعت عدة ثقوب إلى قلبه ، على نحو يكون في مقدوره أن يقدم كل النغمات التي يُراد أن يصدح بها من أدنى النغمات إلى أعلاها . ثم يمضي الرومي قائلا : " ولكن ما هذا الناي وأين مغنّيه ؟ " إن الأول تحت شفتي المعشوق ، والآخر يغني للعالم خارجا .
مظفر النواب : (8) عشبة خلود الشاعر : "اسعيده" المرأة ـ د. حسين سرمك حسن
يئس جلجامش وانخذل ولم ييأس مظفر النوّاب من الظفر بعشبة الخلود ، عشبة خلود مظفر هي شعب مظفر العظيم ؛ شعب العراق العظيم - هدية الله للبشرية - أرضه بترابها وحبها وبصلها وشمسها وطينها ، وكلّها مشتقات من الحضور النفسي اللاشعوري المختزن والوجودي الكوني والفردي الفعلي لحضور الأنثى الأسطورية العظيمة : الأم . وعليه فإن عشبة الخلود النوابية هي ليست حچام البريس ولعيبي وسعود وجابر .. و .. و.. من الأبطال الرجال على أهمية حضورهم وفعلهم النضالي المقاوم وكما يحاول مظفر أن يرسخ ذلك في أذهاننا بفعل دور حچام في الحكاية .. بل هي اسعيده وكل النماذج – الأصوات الأنثوية التي تصدت لتبليغ رسالة الشاعر – راجع قصائد حسن الشموس ، مضايف هيل ، عشاير سعود ، مامش مايل ، سفن غيلان ازيرج وغيرها الكثير الكثير - حتى ليمكننا القول بلا تردد أن المنجز النوابي بأكمله قائم على حقيقة اكتشفها من خلال مقومات لاشعوره التي رسمت للصورة الامومية / العشتارية كإلهة منقذة بخلاف الأطروحات المتعسفة التي دامت آلاف السنين . هذا الاكتشاف شيء يتململ في أعماق المبدع ، يعرفه حدسيا ويصوغه شعريا لكنه لا يستطيع وليس من مسؤوليته أن يوصفه " علميا " أو " نظريا " . وكان معلم فيينا يأخذ ضيفه ليريه محتويات مكتبته ، ويشير إلى أوديب ملكا لسوفوكل وهملت لشكسبير والاخوة كرامازوف لدستويفسكي ويقول : هؤلاء أساتذتي .
الأدب المغربي و"عقدة المشرق" ـ مصطفى الغرافي
هناك مقولة متواترة عبر العصور مؤداها "أهل المشرق أهل إبداع وأهل المغرب أهل فقه وهوامش" مما يفيد أن الإبداع الحق مصدره المشرق في حين ينحصر دور المغاربة في الشرح والتعليق ووضع الهوامش. مع الاعتراف بدروه المهم في تمويل المشرق بالفقهاء والمتصوفة. من الواضح أن هذه المقولة في منطوقها ومفهومها تسعى إلى أن تجعل المغرب تابعا إبداعيا للمشرق. وهو ما تختزله المقولة الذائعة الصيت "بضاعتنا ردت إلينا" التي قالها الصاحب بن عباد عندما وصله كتاب"العقد الفريد" لابن عبد ربه. لقد كان يتوقع أن يجد فيه تعريفا بأدب المغاربة فوجده يضج بأدب المشارقة. وفي ذلك توكيد للرأي الذي يقرر أصحابه أن المغاربة كانوا على الدوام مفتونين بالمشرق ومأخوذين بإنتاجات أعلامه. وقد ألف عبد الله كنون كتابه "النبوغ المغربي" من أجل إبراز الإسهام المغربي في الادب العربي.
عبد الكريم العامري يخترق تابو الحياء المفتعل ـ عزيز الشعباني
الحظر على الاعمال الادبية التي تتناول تابو الجنس من قبل الادباء المنتمين للعالم الثالث الاسلامي لم يعد ينفع في زمننا الحاضر ، ومع ان هناك شواهد كثيرة خلّفها لنا الارث الثقافي الاسلامي تجاوزت هذا التابو الا ان هذه الشواهد لم تر النور بل وطمرت في صندوق الذاكرة ، عن جهل ، او عن قصد وسوء نية الازمنة المريضة ، اما في زمن الحريات الانسانية فقد انكشفت افاق هذا الموضوع الغريزي وتعدى كل خطر، سواء من قبل بعض الفئات المجتمعية او الدينية والسياسية ، ليس من اجل التحدي ، بل لكشف ممارسات مجتمعية ونخبوية غير سوية ، توظف ارث المحظور بابشع صورة لصالح منافعها الخاصة ، منافع مبطنة بتبريرات جفاها الزمن .
مع بوح أحمد أيوب في (رسائل إلى أفروديت) ـ زياد جيوسي
في عشر مقطوعات قصيرة في قصيدة نثرية، تراوحت كل منها ما بين الشطرتين والخمس شطرات، كان أحمد أيوب يبث لواعج ما بين ألم وفلسفة مخاطباً أفروديت، وأفروديت يقال عنها إنها إلهة الحب، بينما وحسب ما وردت في الأساطير اليونانية فهي إلهة الحب والجمال والشهوة والجنس والبغاء، فهي إذاً إلهة الحب الجسدي وليس الرومانسي كما يفهمه البعض، وفي العبادة الوثنية في معبدها في أثينا كان الجنس جزءاً من العبادة، وأفروديت معروفة عند الرومان تحت مسمى فينوس، وعرف بالأساطير المروية عنها أنها كانت تمارس الخيانة كثيراً، وتنسب اللات لدى العرب في الجاهلية أيضاً أنها نسخة أخرى من أفروديت أو فينوس.
واضح أن النص تم البوح به وكتابته في ظروف الشتاء القارص والثلوج، وربما في الظروف التي مرت بها المنطقة خلال الأيام الماضية حين زارتنا (اليكسا) بكل قسوتها، فالشاعر يبدأ نصه بوصف الشتاء والحال به، فهو يصفه بأنه (عقيمُ الأمنيات)، وهو يصرخ لا (للريح تحمل صمتنا الموبوء)، وحقيقة لفت نظري وصف الشتاء بأنه وحي عقيم الأمنيات، فالشتاء وخاصة بعد طول انتظار الغيث يوصف بالخير، ودوماً يشكر الناس الله على نعمته بالقول: الحمد لله، و(جعلنا من الماء كل شيء حي)، بينما في الشطرة الثانية يصفه بأنه (جدلٌ يدثر خوفنا البريَّ)، وهنا نجد الخير بين طيات الكلمات، فالشتاء هنا يدفئ خوفنا من العطش والمحل والقحط.
رواية جدار : الأفق الجديد لتناول النكبات ـ إدريس يزيدي
اصطلح النقاد على تسمية عنوان النص بالعتبة التي من خلالها يتم الولوج إلى رحابه، أما أن تظل العتبة هي المهين الأول على تفاصيل النص فهذا ما نجده في رواية "جدار" الصادرة عن مطبعة الجسور لمحمد مباركي.
من بداية النص إلى منتهاه يمضي الأسلوب السردي في إيقاع منسجم خال من أية عثرات، وهو ما يبعث في نفسية القارئ راحة تسعفه على متابعة تفاصيل النص دون عناء. إلا أن الذي يلفت الانتباه أكثر هو استغناء الراوي عن الرجوع بالذاكرة إلى الوراء بشكل شديد التشابك، وهو ما نلحظه ـ خاصة في الآونة الأخيرة ـ في العديد من التراكمات النصية التي تربك القارئ وهو يلهث خلف الأحداث يحاول أن يوجه عبثية الزمن في تلافيف النص. كأن هذا ـ أي التسلسل الزمني البسيط في رواية جدار ـ مبعثه ما يطالعنا به في مستهل النص " لم تكن في بيتنا ساعة حائطية، ولم أكن أملك ساعة يدوية" ص9.