
فالموقف الفاتيكاني من فضاء فلسطين، تنطلق مقوّمات وعيه من مدوّنة نصّ لا واقع نص، أي الأرضية الحضارية والتاريخية للمنطقة. ومن هنا عُدَّ المترسّب البشري على الرقعة الجغرافية الفلسطينية مهمَّشا، في حين كان النصّ المقدّس بشقّه القديم أساسا هو المرجع والفيصل، والخاضع لتأويلية وعي صنعتها الرؤية العزْراوية التي ختمت الصياغة النهائية للتوراة. مهتديا بذلك يؤسّس العقل الفاتيكاني وعيه بتراث المنطقة وشعوبها، عبر استلهام المنتوج الحبري -مدارس صياغة التوراة- ويلغي كافة المدوّنات الخارجة عن النصّ المقدّس، باعتبارها مرجعية أبوكريفية منتحلة، برغم الحجّية العلمية المعتبرة لها والتصحيحية أحيانا للنص التوراتي الرائج اليوم.
كان هذا المدخل ضروريا لمتابعة أسس وعي الكنيسة الكاثوليكية بالمنطقة، والذي بدأت تتجلّى ملامحه مع الأطماع الصهيونية المبكّرة في فلسطين، وما رافقها من ردود أفعال محلّية. يذكر الأستاذ علي المحافظة في كتابه: "الحركات الفكرية في عصر النهضة في فلسطين والأردن" أن أوّل من أشار إلى الأطماع الصهيونية في فلسطين الرهبان الكاثوليك، الذين كانوا يتابعون باهتمام وقلق النشاط الصهيوني، فقد نشر هنري لامنس اليسوعي مقالة في مجلّة "المشرق" عام 1899م بعنوان "اليهود في فلسطين ومستعمراتهم" تحدّث فيها عما ذكرته صحف الأستانة عن انتشار اليهود في فلسطين، وحثّها السلطات العثمانية على مواجهة النشاط الصهيوني. كان انتشار الرهبان والمبشّرين اليسوعيين الكاثوليك مكثّفا في تلك الفترة، وكانت مساعي الإستيطان الصهيوني في بداياتها، وبرغم ذلك مثّلت تناقضا حادا مع المخطّط الكنسي. فقد جاء ردّ البابا بي العاشر (1835-1914م)، في الخامس والعشرين من يناير 1904. على تيودور هرتزل برفض حاسم بشأن توطين اليهود في فلسطين بقوله: "إن اليهود لم يعترفوا بربّنا يسوع المسيح ولأجل ذلك ليس بوسعنا الإعتراف بالشعب اليهودي"، ومن هذا المنظور كان اليهودي أو المسلم، الذي يقيّم المسيح تقييما يتناقض مع الفهم الكاثوليكي، لا شرعية ولا حق له في "أرض المسيح"، ستبقى هذه العقدة متحكّمة في النظرة للقدس ولفلسطين عموما.