أنفاسفي خضمّ بحث العقل في الفضاء الإسلامي عن اكتشاف سبل الانبعاث المستجدّة، يجدر الإلتفات للمؤسّسات العلمية، الدّينيّة منها بالأساس، فيما أنتجته وما تنتجه من وعي ورؤى ومفاهيم. وتمعّن مثلّث: المحتوى المعرفي والمنتِج المعرفي والخرّيج العلمي. ومن ثمّة تبيّن الدور الحضاري-المعرفي للمؤسّسة، في فضائها العائدة إليه بالنظر والمرتبطة به. سيكون اهتمامي بالجامعة الزيتونية في هذه الدّراسة لاعتبارين أساسيين: لما ربطتني من وشائج قربى واقتراب بالمؤسّسة، حيث لازمتها طيلة مراحل التكوين الجامعي؛ ولانشغالي بالظاهرة الدّينية في حقلها الإسلامي وفي مجالها العالمي الموسّع. ولم يقتصر بحثي على تناول الزّيتونة في حدّ ذاتها بل تطلّع لربط المؤسّسة بالصيرورة التاريخية التطوّرية العامة، لما شكّلته مؤسّساتها العلمية من آلة، يقاس عليها واقع حال عقل كتل بشرية بمجملها.
أولا: من أجل تقييم علمي لتاريخ الزّيتونة
تُعدّ جامعة الزّيتونة في تونس من أعرق الفضاءات التعليمية في العالم الإسلامي، بالمعنى المؤسّسي الشّامل، استطاعت أن تحافظ على استمراريتها عبر القرون. بدءا ينسب تأسيس الجامع إلى حسّان بن النّعمان الغسّاني، فاتح تونس وقرطاج سنة 79هـ (698-699م). كذلك هناك من يذهب إلى أن تأسيسه تم في عهد عبد الله بن الحبحاب، الذي سمّاه هشام بن عبد الملك واليا على إفريقية سنة 110هـ (728-729م)، وقيل أيضا سنة 116هـ الموافقة لـ734م. كما تم توسيع الجامع في عهد زيادة بن الأغلب، عندما تولى إمارة القيروان. وأرجّح أنّ هذه الإختلافات التّاريخية متعلّقة بتحديد أزمنة تطورّات التوسيع التي شهدها الجامع في عهوده الأولى، وليس لها صلة بزمن التأسيس الأوّل.
وبرغم التجذّر التاريخي لهذا الجامع-الجامعة، وثراء التجربة التعليمية وعراقتها، فلازالت المؤسّسة تمثّل تجلّيا عيّناتيا مكثّفا لاشتغال العقل الإسلامي ولأزمته ومتاهاته المتنوّعة. فمبادرات الإصلاح التربويّة والتعليمية للمؤسّسة متكرّرة ومتعدّدة، ومن المحاولات التي جرت في القرنين الأخيرين مثلا، ما تمّ في 1842م وفي 1862م وفي 1875م وفي 1910م وفي 1950م وفي 1987م.
ونظرا لحساسية موضوع الزّيتونة المتشابك مع السّياسي في جلّ مراحله، نجد جلّ دارسي الاجتماع والمؤرّخين، غالبا ما حادوا عن التطرّق العلمي الموضوعي لتقييم العقل النّظري الذي قامت عليه المؤسّسة، الأمر الذي منع بلوغ موازنة موضوعية لدورها الحضاري. ولذلك يلاحظ المتتبّع للكتابات المتناولة للزّيتونة، هيمنة الخطاب الفخري والتمجيدي عليها. وتفتَقَد لحدّ الآن، المقاربة الموضوعية للتاريخ الحضاري لها، التي يُفرَز فيها الدّور التحصيني الحمائي للهوية -وهو غال على الشّعور الإسلامي، خصوصا أثناء الإقتحام الإستعماري-، بغرض تبين الأثر السّكوني السّلبي للنمط التعليمي لهذه الجامعة ومثيلاتها. وهو ما ينبغي إجلاؤه بكلّ صرامة، حتى لا يسترسل مع الخطاب التمجيدي العفوي أو المداهن.

أنفاسالدين من القضايا المقدسة إطلاقا , كيفما كان نوع الدين , فالإنسان قلما ينقده بمسؤولية و موضوعية.و للدين آثار و تأثير في حياة الناس و مصائرهم , في قلوبهم و عقولهم و توجيه سلوكهم.و على الرغم من خطورة المعتقد و أهميته الكبرى : في مصير النفس الإنسانية في الحياة الدنيا و الآخرة,فقد ظل الانسان يلتف حول ما يخدم مصالحه اللحظية الدنيوية حتى مع تعارضها و عدم انسجامها مع ما يقتضيه الشرع الالهي المنزل.
و كان بطبيعة الحال أن يقع الصدام بين ما يفعله الإنسان و ما ينبغي أن يكون , فقام الإنسان على مر التاريخ , بإسم التأويل و التفسير , و بإسم مقولة الظاهر و الباطن , و العقل و القلب ..بتحريف الشرع الالهي , و الذي كان واحدا لم يتعدد في مضامينه و إن تعدد الرسل و الانبياء و كثرت اللغات.
و كان شعار الشرع الالهي التوحيد و العدل و الحرية , كما كانت غايته تصبو إلى إسعاد النفس البشرية و إبعادها عن الأهواء و الضلال و التضليل.. و تصحيح أخطاء العقل المكتسب و هفواته و التي كان و لا يزال للعلماء النصيب الاعظم في بناءها.والعلماء في كل مجالات الحياة , بالرغم من معرفتهم بمصدر الحقيقة , كانوا عبر التاريخ , مركبا للتناقض , و سببا في تحريف معنى الدين , بتأليفهم لأسفارهم المقدسة في اللاهوت و الشريعة.. و علوم الطبيعة.فكانت النتيجة أن أصبح الانسان يقدس شروح العلماء و وساوسهم و اجتهادتهم , فتعددت مصادر الدين و كثرت , و ترسخ في الأذهان دين جديد , و مصادر جديدة تختلف بإختلاف الملل و النحل.سواء عند اليهود و النصارى و المسلمين أو عند المجوس و الهندوس..
و إذا كان الدين البشري كما رأينا, فإن الدين عند الله لا يقبل التعدد ـ لأنه رسالة واحدة من خالق أحد لبشر ينتمون لنفس الطبيعة الممتلكة لنفس العقل ...ـ و ان تباينت مواقف الناس منه.
هذه المواقف المسجلة في التاريخ كأحداث و كتب ..أضحت دينا يتبع , دينا لا يقبل النقد و المحاكمة, و إرثا يصعب على الانسان الشك فيه أو إخضاعه للمسائلة. فكان هذا الأمر ـ كثرة الأديان و تناقضها..
سببا لكفر البعض بالدين و عقائده ..كما كان دافعا للخلط بين الشرع الإلهي و الشرع الانساني فنشأ دين يحمل التناقض و الزيف مما حدى بأتباعه الى اللجوء تارة الى التفسير و تارة أخرى الى التأويل : تفسير و تأويل الشرع الالهي لكي يوافق هوى النفوس و عقائد الشرع الإنساني.
و في خضم كل هذا كان التاريخ دوما حافلا بقلة من الناس , كانت دوما متمسكة بالهدي الإلهي وحده.

أنفاس"محاولة في رفع1 "سوء التفاهم التاريخي" إزاء أطروحات محمّد الشرفي "
كما هو الشأن بالنسبة لكلّ إنسان مثقف وملتزم، توجد في شخصية الفقيد محمّد الشرفي عدّة ملامح ومكوّنات، تبعا لتعدّد الأدوار التي لعبها والمكانات التي تبوّأها. فهنالك الشرفي المناضل في الحركة النقابية الطلابية والشرفي المناضل السياسي في حركة آفاق(الستينات)، فالأستاذ الجامعي والكاتب العام المساعد لنقابة أساتذة التعليم العالي والأساتذة المحاضرين(السبعينات)، فالقيادي في الرابطة التونسية لحقوق الإنسان(الثمانينات)، لينتهي وزيرا للتربية لمدة خمس سنوات مثيرة للغاية(1989- 1994)، قبل أن يلتحق من جديد بفعاليات المجتمع المدني الوطني والدولي (رابطة حوار الحضارات بالأمم المتحدة: 2006).
لقد تحدّث أصدقاء الفقيد بصفة خاصة عن الملامح النضالية النقابية والحقوقية والسياسية في شخصيته الثرية وكتبوا عن ذلك في مختلف الصحف الوطنية والعربية، وبما أنني من جيل لاحق لجيله وحتى للجيل اللاحق به، فإني غير مؤهل لإضافة المزيد حول هذه الجوانب، ولعلّ أحسن طريقة نحيي بها ذكراه هو أن نتوقف عند أهمّ أثر فكريّ تركه، وهو كتاب "الإسلام والحرية: سوء التفاهم التاريخي"، لنرفع سوء التفاهم الحاصل حول "سوء التفاهم" الذي أراد الفقيد رفعه حول علاقة الإسلام بالقيم الإنسانية الكونية وعلى رأسها قيمة الحرية. زد على ذلك أن ما يجلب انتباهي على نحو خاص في مسيرة الفقيد الاستثنائية ، بحكم طبيعة اهتماماتي الحالية، هما الجانب الفكري و الجانب التربوي الاستراتيجي.
وعندما نقول الفكر، نقول الآثار المكتوبة، من دراسات ومحاضرات، وبالتالي لا يهمّنا ما يتجاوز ذلك إلى الممارسات الخاضعة إلى مقتضيات المأسسة وإكراهات اليومي، والحماس الذي قد يكون أحيانا مبالغا فيه في تطبيق الرؤى والقناعات الخاصة بفعل استشعار امتلاك النفوذ، فتلك أمور تتوقف على نصيب الحكمة العملية ورصيد الخبرة التنفيذية، والناس يتباينون فيها أيما تباين، مهما جمعتهم الآراء وتشخيصات عيوب الواقع والوعي بمتطلبات المرحلة، والشواهد على ذلك في التاريخ البعيد والقريب كثيرة.

1- محمد الشرفي المثقف والمفكر والاستراتيجي التربوي
إذا ما سُئِلتُ عن أبرز صفات فكرية تبينتُها لدى فقيد المجتمع المدني ورجل الدولة السابق المرحوم محمد الشرفي فسأقول دونما تردّد الوضوح والتمييز (الديكارتية) والنزاهة وقوّة الحجة. وإذا ما سُئِلتُ ما هي أبرز صفات خُلقِية لمستها لديه، فسأقول إنها بلا ريب صفات التواضع والهدوء وحسن الإنصات والحرص على الاستفادة من ملاحظات الآخر المختلف.

أنفاسكثر الحديث في الآونة الأخيرة حول مصطلحات استحوذت على النقاشات الفكرية العالمية من قبيل ؛ صراع الحضارات وحوار الثقافات والقيم الكونية والقرية العالمية والغزو الثقافي والهوية الثقافية والعولمة والإرهاب وغيرها من المصطلحات ، بحيث كثر الجدال واختلفت الآراء وتنوعت القضايا دون أن يؤول منها القارئ المتأمل إلى أية رؤية واضحة أو فهم سليم . ونحن ـ في هذه الورقة ـ نحب أن نقف عند مستويات من القراءة نحاول من خلالها أن نقارب هذا الموضوع  ، وذلك انطلاقا من المداخل التالية :
1 ـ قراءة لغوية بلاغية :
    إن ما أثار انتباهنا واستوقف نظرنا هو أن غالبية هذه المصطلحات يكتنفها الكثير من الخلط وعدم الدقة ، وتثير من مواطن الخلاف أكثر مما تقود إلى مظاهر الوفاق ، فإذا وقفنـا ـ مثلا ـ عند المصطلحين الأولين ( صراع ـ حوار) فإننا سنلاحظ أنهما يشتركان في الصيغة الصرفية . فصراع على وزن فعال (بكسر الفاء وفتح العين) ، وكذلك وزن حوار ، كما أن الصيغ المشتقة منهما لها نفس الوزن ، فحاور من حوار ومحاورة ، وصارع من صراع  ومصارعة من أوزان : فاعل فعالا ومفاعلة . إن الملاحظ هو أن وزن فاعَل يدل على المشاركة بمعنى أنه يتطلب مشاركة فاعلين اثنين ، إذ لا يمكن أن ينجز هذا النوع من الفعل فاعل واحد . هكذا يقول علماء النحو . وإذا انتقلنا إلى علماء البلاغة أو المعجم فإننا سنجد المعنى يقودنا إلى نفس الدلالة ، ألا وهي أن الفعل حاور يتطلب مشاركة وتعاونا وتبادلا لدوري الحوار: المتكلم والمجيب ؛ بحيث يصبح المتكلم مستمعا والمستمع متكلما ، والمرسل متلقيا والمتلقي مرسلا ـ وهذا عادة ما يتم في الحوار العادي ـ هذا النوع  من الحوار يتطلب الاعتراف بالآخر واحترام رأيه ومحاولة إقناعه بالحجة والبرهان ، إن أمكن ، وإلا احتفظ كل طرف من الأطراف برأيه دون أدنى مساس بالاحترام.
     إذا توقفنا عند هذا المستوى لنتأمل الواقع الحالي ، فماذا نلاحظ ؟ هل تحقق في " الحوار" الحالي بين الحضارات تساو ؟ هل توفر فيه شرط الاحترام ؟  أو هل تم فيه توظيف آلية الإقناع بالحجة والبرهان ؟ باختصار هل تمت مراعاة خصائص الحوار وشروطه وأركانه ؟ هل ـ مثلا ـ تعترف الحضارة الغربية المعاصرة بنا نحن العرب والمسلمين ؟  
  مصطلح " صراع " بدوره يثير نقاشا يرتبط بطرفي المعادلة . هل يمكن مثلا اعتبار اعتداء القوي على الضعيف صراعا ؟ أم أن الصراع  يتطلب قدرا من القوة يمتلكها الطرفان حتى يمكن تسميته صراعا . هل البطش صراع ؟  ـ مثلا ـ أمثلة كثيرة من الواقع الراهن تحتاج إلى إن تطرح بصددها أسئلة من هذا القبيل .

أنفاستميّزت القضايا التاريخية للمسيحية في العقدين الأخيرين من القرن العشرين بطابع محلّي، إلى جانب ما شهدته من جدل متواصل مع ظاهرة العولمة. فلأثر واقع القرية الكونية الذي صار يميّز البسيطة، بفعل فرص الاتصالات الناشئة عن توسّع الشّبكة الإعلامية وتحت دفع أشكال التّرابط الاقتصادي والسّياسي المتنوّعة، تواجه التجمّعات المسيحية تحدّيات على مستوى الحضور الفعلي وعلى مستوى الإبداع داخل عديد المجالات الاجتماعية والثقافية والرّوحية. ففي زمن التّجديد، المرتبط لدى الكنيسة الكاثوليكية بربيع المجمع الفاتيكاني الثاني (1962-1965م)، ولدى الكنائس الأخرى بنشأة الحركات المسكونية الحديثة وتطوّرها، وبالتحوّلات اللاّهوتية، مقارنة بما كان سائدا خلال القرن التاسع عشر، تولّدت حالة نعتت بالتململ، كانت ناتجة عن مظاهر وعي مستجدّة وعن تجربة تنوّع الثقافات، وكذلك أيضا عن الضرورات التاريخية السياسية، وعن الاحتياجات والتعبيرات الرّوحية والدّينية. ففي فضاء اللاّهوت، المتميّز بالوعي النّقدي بالمعيش المسيحي والإكليروسي، جرى ذلك التّململ من خلال تطوّر في التصوّرات مسّ عديد الفضاءات، كأمريكا اللاّتينية وإفريقيا وآسيا، كانت خاضعة فيما سلف للتوجيه التقليدي الأوروبي. جرى ذلك عبر ظهور رواد جدد، كانوا في مستوى أول من العَلمانيين والنّساء، مقارنة بالهيمنة الإكليروسية والذكورية السائدتين في الماضي. كما تبدّى ذلك التململ من خلال ظهور مناهج جديدة، في علاقة أساسا بظهور قيمة الفعل، "الفعل الحقيقي"، مقارنة بالأولوية المميزة للحظة العقائدية الموضوعية، "المبدأ الجوهري". لقد كان للجدل بين المحلّي والعالمي الناتج عن تلك التحولات الأثر المباشر. فإذا كان إيلاء الاهتمام للإيمان يتطلّب إقرارا عميقا بالتحدّيات الواردة من السّياقات التاريخية الاجتماعية، وكذلك توظيفا إيجابيا ونقديا للّغات المختلفة -تعبيرات المواريث الثقافية والأنساق العلائقية المتغايرة فيما بينها-، فإن الأمر يطرح في الآن سؤالا مصيريا متعلّقا بتواصل الإيمان ذاته، وبالتالي عن فرص المحافظة على عرى التوحّد الحقيقية، والتفاهم المشترك، بين اللاّهوت والممارسة العملية المسيحية، في تضادهما السياقي. علاوة، نجد نفس السياق العولمي الجاري على مستوى كوني يتحدّى سياقات الوعي الداخلية، بشكل يجعل هذه الأخيرة تتخلّى عن طابعها المطلق المانع للحوار، والحائل دون الاقرار بالتنوّع داخل شبكة التواصل، ليدفع بها نحو الانفتاح على وحدة إيمان أكثر رحابة وأكثر عمقا.

أنفاسعقب انتهائي من مناقشة رسالة الدكتوراه التي أعددتها في جامعة الزيتونة، خلال السنة الجامعية 1997، حول "المقاربة الدينية لليهودية في الفكر العربي خلال النصف الثاني من القرن العشرين"، حرصت على نشر ملخّص على صفحات مجلّة أو دورية مشرقية، أملا في إشاعة نتائج البحث، ورغبة في لفت النظر لعديد الأخطاء الرائجة، والتنبيه إلى أوضاع الدراسات العربية المتعلّقة بهذه الديانة، من حيث تدنّي "علموية" الخطاب فيها، مقارنة بدراسات موازية في بلدان أخرى. خصوصا وأن حاجة البلاد العربية تستلزم النهوض بهذا المبحث، لما تعيشه من صراع مزمن مع دولة، تستند إلى التراث العبري مرجعية حضارية لها. غير أنه رفضت كلّ المجلاّت الحديثَ عن هراء خطابنا وكشْف سقطاته، إن لم أقل جهالاته في مسائل عدة، متعلقة بالتراث العبري وبالديانة اليهودية، حتى أرسلت الملخّص إلى مجلّة "الحياة الثقافية" بتونس، التي كان يديرها الرّوائي حسن بن عثمان سابقا، فقبلت نشره.
من خلال متابعتي للحقل لاحظت تفشّي وهْم شائع بين العرب أنهم يعرفون إسرائيل، وبالتالي لهم إلمام بدينها، بناء على ما قيل في القرآن الكريم والسنة النبوية، وعلى ما يكابدونه من صراع مستمر مع إسرائيل. والأمر غير ذلك، فليس هناك في شتى أرجاء البلاد العربية قسم جامعي، يتولى تدريس اليهودية أو المسيحية بمناهج علمية، ما عدا ما يأتي عرَضا ضمن دروس بعض أقسام الدعوة الإسلامية، أو أقسام اللاهوت المسيحي في دول المشرق، والتي لم تعانق فيها الدراسة العلمية، بل لازالت تدور في حيز المقاربة اللاهوتية.
وأعترف أن دراستي "الأكاديمية" لليهودية في الجامعة الزيتونية في قسم "الأديان والمذاهب" سابقا، لم تتجاوز شروحات لامية الإمام البوصيري (ت 1295م) وترديد مقاطعها:
لُعِن اليهود مع النصارى لا تكن بهم على طريق الهدى مدلولا
فالـمُدَّعو التثليث لا تحفل بهم قد خالفوا المنقول والمعقولا
والعابدون العجل قد فتنوا به ودّوا اتخاذ المرسلين عجولا

أنفاساقتنعت بعد تجربة كأستاذ في إحدى الجامعات الأمريكية أن مؤلفات عهد الاستعمار حول المغرب، التي نهملها ونحتقرها، لا تزال تؤثر في أذهان الأجانب. إن الباحث الأمريكي يتسرع في جمع المعلومات حول ماضي المنطقة دون أن يكون مؤِهلا لنقدها والتمييز بين أنواعها. يتهافت على الفرضيات التي يتحفظ حتى أصحابها عند تقديمها فيأخذها كحقائق نهائية. يجهل العربية والبربرية ويهدف إلى فهم الحالة القائمة فلا يهمه من التاريخ إلا ما هو لازم أكاديميا وما يسهل إدراك المشكلات الاجتماعية والسياسية. فيستهويه ما كتبه الفرنسيون ويعطيه قيمة أعلى من قيمته الحقيقية. والباحث الأمريكي ليس إلا مثلا على كل الدارسين الأجانب.
«فكرت، والحالة هذه، أنه من المفيد أن أقدم نظرة مغربية على تاريخ المغرب، حتى ولو لم آت بأي كشف جديد، مقتصرا على تقديم تأويلات جديدة للأحداث والوقائع»
(عبد الله العروي: مجمل تاريخ المغرب، ص 28 ــ 29).
سيكون من باب «الذهان القرائي» دراسة خطاب المؤرخ والروائي المغربي عبد الله العروي في ضوء «نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي» التي تستند إلى «وعي نظري» لا يسمح المجال بأن نعرض لها في هذا التقديم(١)، هذا بالإضافة إلى ما يتيحه هذا الوعي من إمكانات متعددة على مستوى دراسة العديد من «النصوص» المكرسة والمتداولة في «ثقافات» ما ينعت بـ«العالم الثالث». وهذا إذا كان خطاب عبد الله العروي يتيح إمكانية حصره في خانة «العالم الثالث» وغيرها من الخانات أو التسميات التي عادة ما يلجأ إليها الباحثون في نطاق السعي إلى «السيطرة المفترضة» على مواضيعهم. وحتى نلج الموضوع، موضوعنا، تجدر الملاحظة إلى أنه ثمة فرق جلي بين إدوار سعيد (1935 ــ 2003) الذي مهد، وبقوة، للنظرية سالفة الذكر، وعبد الله العروي المشدود إلى قارة معرفية أخرى لا تزال تتأبى على الدراسة والتحليل بسبب من «المفهومية» المكثفة التي يستند إليها صاحبها في كتابة التاريخ ورصد المفاهيم والنقد الإيديولوجي. وكما أن الفرق بينهما كامن في المرجعية وفي المفهوم أو المفاهيم التي تسند المرجعية ذاتها. وكل ذلك في المنظور الذي يصل ما بين هذين الطرفين معا وفي المدار نفسه الذي لا يفارق الهدف المتوخى من «الثقافة» على نحو ما يفهمها كل واحد منهما على حدة. ومن هذه الناحية يمكن الإشارة إلى «نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي» باعتبارها مرجعية ناظمة لـ«مشروع» إدوارد سعيد، وخصوصا من ناحية مفهومها المركزي «الخطاب» (Discours) الكاشف عن «تمفصلات» الثقافة (النوع الروائي بشكل خاص) والقهر الإمبريالي، وكل ذلك في إطار من السعي إلى «فك الاستعمار» (Décolonisation) عن «العالم الثالث».

أنفاسربطت فرنسا صلاتها بالشرق منذ عهد بعيد ، إذ يعود أول اتصال بينها وبين المشرق العربي إلى أيام الخليفة هارون الرشيد العباسي والملك شارلمان. كما شاركت في الحروب الصليبية التي شنتها الكنيسة الكاثوليكية على المسلمين في المشرق إضافة إلى حملة نابليون وما نتج عنها من اتصالات بين الشرق والغرب، ثم احتلالها للجزائر، واستعمارها لدول عربية أخرى. كل هذا جعل من فرنسا دولة وثيقة الصلة بالعالم العربي وبالحضارة الإسلامية، وكان من الضروري كذلك أن يتجه الباحثون والدارسون الفرنسيون إلى الاهتمام بثقافة هذه البلدان ودراسة شعوبها دراسة اجتماعية تمكنهم من السيطرة أكثر على منابع المعرفة العربية الإسلامية.
غير أن الخطوط الكبرى لمنهج الاستشراق الفرنسي قد تبلورت مع (أنطوان سلفستر دوسالي) (1758-1838م) الذي يقول عنه المستشرق الفرنسي مكسيم رودنسون: "إنه كان عالما ضليعا ومدققا في فقه اللغة، ففرض على العالم الأوربي الصرامة والدقة الفكرية، وبقي أسلوبه في العمل حتى يومنا هذا الأسلوب نفسه الذي يتبعه عدد غير قليل من المستشرقين الكبار.1 وتأتي فرنسا وألمانيا وهولندا وانجلترا والفاتيكان على رأس الدول الأوروبية التي أنشأت كراسي الاستشراق في مدارسها وجامعاتها منذ القرن الثاني عشر الميلادي. "وتطور الاهتمام بتعليم العربية بعد ذلك في عصر النهضة الأوروبية، إذ قامت اللغات القومية واستقلت بنفسها للتعبير عن المعارف والعلوم والآداب المختلفة، ومن هذه اللغات الفرنسية المتفرعة أصلا عن اللاتينية، فصرنا نرى بعض العلماء الفرنسيين يسعون إلى تعلم العربية، أو نرى الدولة تتوجه إلى تحريض بعض رعاياها على تعلمها وتعليمها، ليكونوا واسطة اتصال وأداة تفاهم مع العرب في مختلف الميادين، وليعملوا مترجمين في مكتبة الملك ومراسلاته وسفاراته وقنصلياته في المنطقة العربية، وليشرفوا كذلك على مصالح فرنسا التجارية في الشرق العربي، وكان من أسباب الاندفاع إلى تعلم العربية أيضا سقوط القسطنطينية، عاصمة الإمبراطورية البيزنطية، وتهديد العثمانيين المسلمين لأوربا المسيحية في أواخر القرن الخامس عشر والنصف الأول من القرن السادس عشر للميلاد.. إن تعليم العربية كان يهدف إلى الاطِّلاع على الحضارة العربية، ونقل علومها، ومعرفة الإسلام وأسرار قوته عن كثب"2
وكان من أهم المدارس والمعاهد التي أسهمت في تعليم العربية بقسط كبير أو صغير وتعزيز الدراسات العربية داخل فرنسا وخارجها على حد سواء، وهي بحسب تسلسل ظهورها على مسرح التاريخ كالتالي :