في خضمّ بحث العقل في الفضاء الإسلامي عن اكتشاف سبل الانبعاث المستجدّة، يجدر الإلتفات للمؤسّسات العلمية، الدّينيّة منها بالأساس، فيما أنتجته وما تنتجه من وعي ورؤى ومفاهيم. وتمعّن مثلّث: المحتوى المعرفي والمنتِج المعرفي والخرّيج العلمي. ومن ثمّة تبيّن الدور الحضاري-المعرفي للمؤسّسة، في فضائها العائدة إليه بالنظر والمرتبطة به. سيكون اهتمامي بالجامعة الزيتونية في هذه الدّراسة لاعتبارين أساسيين: لما ربطتني من وشائج قربى واقتراب بالمؤسّسة، حيث لازمتها طيلة مراحل التكوين الجامعي؛ ولانشغالي بالظاهرة الدّينية في حقلها الإسلامي وفي مجالها العالمي الموسّع. ولم يقتصر بحثي على تناول الزّيتونة في حدّ ذاتها بل تطلّع لربط المؤسّسة بالصيرورة التاريخية التطوّرية العامة، لما شكّلته مؤسّساتها العلمية من آلة، يقاس عليها واقع حال عقل كتل بشرية بمجملها.
أولا: من أجل تقييم علمي لتاريخ الزّيتونة
تُعدّ جامعة الزّيتونة في تونس من أعرق الفضاءات التعليمية في العالم الإسلامي، بالمعنى المؤسّسي الشّامل، استطاعت أن تحافظ على استمراريتها عبر القرون. بدءا ينسب تأسيس الجامع إلى حسّان بن النّعمان الغسّاني، فاتح تونس وقرطاج سنة 79هـ (698-699م). كذلك هناك من يذهب إلى أن تأسيسه تم في عهد عبد الله بن الحبحاب، الذي سمّاه هشام بن عبد الملك واليا على إفريقية سنة 110هـ (728-729م)، وقيل أيضا سنة 116هـ الموافقة لـ734م. كما تم توسيع الجامع في عهد زيادة بن الأغلب، عندما تولى إمارة القيروان. وأرجّح أنّ هذه الإختلافات التّاريخية متعلّقة بتحديد أزمنة تطورّات التوسيع التي شهدها الجامع في عهوده الأولى، وليس لها صلة بزمن التأسيس الأوّل.
وبرغم التجذّر التاريخي لهذا الجامع-الجامعة، وثراء التجربة التعليمية وعراقتها، فلازالت المؤسّسة تمثّل تجلّيا عيّناتيا مكثّفا لاشتغال العقل الإسلامي ولأزمته ومتاهاته المتنوّعة. فمبادرات الإصلاح التربويّة والتعليمية للمؤسّسة متكرّرة ومتعدّدة، ومن المحاولات التي جرت في القرنين الأخيرين مثلا، ما تمّ في 1842م وفي 1862م وفي 1875م وفي 1910م وفي 1950م وفي 1987م.
ونظرا لحساسية موضوع الزّيتونة المتشابك مع السّياسي في جلّ مراحله، نجد جلّ دارسي الاجتماع والمؤرّخين، غالبا ما حادوا عن التطرّق العلمي الموضوعي لتقييم العقل النّظري الذي قامت عليه المؤسّسة، الأمر الذي منع بلوغ موازنة موضوعية لدورها الحضاري. ولذلك يلاحظ المتتبّع للكتابات المتناولة للزّيتونة، هيمنة الخطاب الفخري والتمجيدي عليها. وتفتَقَد لحدّ الآن، المقاربة الموضوعية للتاريخ الحضاري لها، التي يُفرَز فيها الدّور التحصيني الحمائي للهوية -وهو غال على الشّعور الإسلامي، خصوصا أثناء الإقتحام الإستعماري-، بغرض تبين الأثر السّكوني السّلبي للنمط التعليمي لهذه الجامعة ومثيلاتها. وهو ما ينبغي إجلاؤه بكلّ صرامة، حتى لا يسترسل مع الخطاب التمجيدي العفوي أو المداهن.
أولا: من أجل تقييم علمي لتاريخ الزّيتونة
تُعدّ جامعة الزّيتونة في تونس من أعرق الفضاءات التعليمية في العالم الإسلامي، بالمعنى المؤسّسي الشّامل، استطاعت أن تحافظ على استمراريتها عبر القرون. بدءا ينسب تأسيس الجامع إلى حسّان بن النّعمان الغسّاني، فاتح تونس وقرطاج سنة 79هـ (698-699م). كذلك هناك من يذهب إلى أن تأسيسه تم في عهد عبد الله بن الحبحاب، الذي سمّاه هشام بن عبد الملك واليا على إفريقية سنة 110هـ (728-729م)، وقيل أيضا سنة 116هـ الموافقة لـ734م. كما تم توسيع الجامع في عهد زيادة بن الأغلب، عندما تولى إمارة القيروان. وأرجّح أنّ هذه الإختلافات التّاريخية متعلّقة بتحديد أزمنة تطورّات التوسيع التي شهدها الجامع في عهوده الأولى، وليس لها صلة بزمن التأسيس الأوّل.
وبرغم التجذّر التاريخي لهذا الجامع-الجامعة، وثراء التجربة التعليمية وعراقتها، فلازالت المؤسّسة تمثّل تجلّيا عيّناتيا مكثّفا لاشتغال العقل الإسلامي ولأزمته ومتاهاته المتنوّعة. فمبادرات الإصلاح التربويّة والتعليمية للمؤسّسة متكرّرة ومتعدّدة، ومن المحاولات التي جرت في القرنين الأخيرين مثلا، ما تمّ في 1842م وفي 1862م وفي 1875م وفي 1910م وفي 1950م وفي 1987م.
ونظرا لحساسية موضوع الزّيتونة المتشابك مع السّياسي في جلّ مراحله، نجد جلّ دارسي الاجتماع والمؤرّخين، غالبا ما حادوا عن التطرّق العلمي الموضوعي لتقييم العقل النّظري الذي قامت عليه المؤسّسة، الأمر الذي منع بلوغ موازنة موضوعية لدورها الحضاري. ولذلك يلاحظ المتتبّع للكتابات المتناولة للزّيتونة، هيمنة الخطاب الفخري والتمجيدي عليها. وتفتَقَد لحدّ الآن، المقاربة الموضوعية للتاريخ الحضاري لها، التي يُفرَز فيها الدّور التحصيني الحمائي للهوية -وهو غال على الشّعور الإسلامي، خصوصا أثناء الإقتحام الإستعماري-، بغرض تبين الأثر السّكوني السّلبي للنمط التعليمي لهذه الجامعة ومثيلاتها. وهو ما ينبغي إجلاؤه بكلّ صرامة، حتى لا يسترسل مع الخطاب التمجيدي العفوي أو المداهن.