أنفاستُعدّ الأطروحات الحديثة الرّائجة، بشأن منشأ اليهودية والمسيحية وتطوّراتهما، صناعة للعقل الغربي بمدارسه الأساسيّة: التاريخيّة والأثريّة واللاّهوتيّة. وقد أملى امتلاك زمام المعرفة في هذه الحقول إلى إشاعة مقولات شتّى، شرقا وغربا، صارت بمثابة اليقينيات. فقد ساهم عدم الاهتمام بتواريخ المذاهب والنّحل الأديان بين العرب، بعدم مواكبة الأبحاث والتطوّرات في هذا العلم، إلى رواج عديد الأطروحات الوافدة، وتقبّل مقولاتها دون تروّ وتثبّت، أو إدراك لأبعادها ومقاصدها.
صيغ التأريخ الحديث لأديان منطقة فلسطين وما جاورها في حضن لاهوتِيي الكنيسة الغربية أساسا، بنحلهم المختلفة، ويمكن الإشارة في هذا المجال إلى عمق تأثير "المدرسة التّطبيقة للدّراسات الكتابية" - l'école pratique d'études bibliques-، المعروفة بشكل أوسع تحت تسمية:- école biblique-، في الأوساط الفرنكفونية، التي أسّسها الدّومينيكاني م.ج لاغرانج (1855-1938م)، وهو من أبرز الدّارسين الكاثوليك للكتاب المقدّس.
ترافقت عملية التأريخ الحديثة للأديان في المنطقة الشّرقية مع فترة الخروج الأوروبي من عهود الظّلمات وانبلاج عصر الأنوار، الفترة التي احتدّ فيها الصّراع بين النّموذج المسيحيّ الغربي والنّموذج الإسلامي، الذي عرضه الأتراك، وهي فترة مثّل فيها الأواخر عنوان التحدّي للكنيسة الغربية، باعتبار تركيا حينئذ ثالثة الأثافي في مصادر الخوف الرّئيسة لأوروبا القروسطية، جنب الطّاعون والشّيطان. سعى العقل الغربي، النّاهض من غفوته على إثر قرون من الغياب، بكلّ ما أتيح له، لسحب المشروعيّة الدّينية من مزاحمه الحضاري. ولذلك مثّلت تلك الفترة أعلى مراحل نَحْلنَة الإسلام، باعتباره هرطقة وبدعة منشقّة عن الأصل المسيحي. فبعد أن تعذّر النّيل من الإسلام –الحاضر في صورة العثمانيين- عسكريا، تركّز البحث للنّيل منه عقديا ورؤيويا. وتكثّفت عملية القضْم-الهدم في منطقة فلسطين وما جاورها، مستودع الميراث الرّمزي الإبراهيمي الحنيفي، من خلال مساع لتفريغها من حضاراتها السّابقة واللاّحقة، عبر إعادة صناعة مفبركة ومحوّرَة لمخزون المنطقة، غابت على إثره تشكيلات حضارية، أو هُمِّشت وبخست قيمتها.
وقد شكّل موضوع عرْقَنَة اليهودية، من خلال ربطها بجماعة بشرية محدّدة، مُيِّزت عمّا سواها، عرقًا ولسانًا ودينًا، المحور الذي بُنيت حوله النّظريات وصيغت له الدّعامات. لذلك يلاحظ المتابع للرّؤية الغربية بشأن اليهودية عرقنة لهذه الدّيانة وحصرا لها، يتناقضان مع مقرّرات البحث الموضوعي للتاريخ الدّيني في المنطقة. تَشَارَك في تلك العرقنة كتّاب متهوِّدون وآخرون كنسيِّون، شرعوا في لملمة "الهوية العبرية" انطلاقا من إبراهيم الخليل (ع) الأوري الكلداني، الوافد على فلسطين من العراق، لتُعاد الصّياغة الثانية للـ"الهوية اليهودية"، مع فترة الفوران النّبوي الذي امتدّ من موسى(ق. 12-13ق.م) إلى عزرا (ق. 5-6 ق.م)، ولتنتهي إلى إرساء "الهوية الإسرائيلية" الحالية.
كان سكّان فلسطين الأصليين ومن جاورهم، والمتقاطرين حتى تاريخنا المعاصر، أكثر الأهالي تغييبا، في تلك الخلاصة التاريخية. لذلك تجد الفلسطيني الحالي، المار عبر تحوّلاتِه التاريخية من أديان ما قبل التوراة، إلى اليهودية، إلى المسيحية، إلى الإسلام، غائبا أو ظلاًّ باهتا في أدبيات تاريخ الأديان الغربية التي أرّخت للمنطقة، وإن سَمّتهم فبنعت البدو تحقيرا وتهميشا.

أنفاس"إن الأبطال الحقيقيين هم الذين يخطون بدمائهم تاريخ أمتهم ويبنون بأجسادهم أمجاد عزتها الشامخة ويشيدون بجماجمهم حصونها المنيعة"..!
فلسطين, ارض عربية الى ابد الآبدين..ارض الدموع والأحزان..ارض المعارك وصراع الارادات..الأرض المقدسة باتت اليوم تستغيث من ظلم ذوي القربى اكثر..فقد خبرت التعامل مع جلاديها وادركت خفايا وخبايا سياساتهم, واعلنت تحديها منذ البدايات, عاقدة العزم على ان لا تحيا الا في عالمها ووسطها العربي, مؤكدة على جذور انتمائها الكنعاني القحطاني..ناطقة بلغة الضاد..تنكسر على حدودها التاريخية كل مؤامرات الابادة وطمس هويتها  الحضارية العربية.. وهنا استذكر ما قاله شاعرنا الفلسطيني الراحل راشد حسين: سنفهم الصخر إن لم يفهم البشر/ إن الشعوب إذا هبت ستنتصر/ومهما صنعتم من النيران نـخمدها/ ألم تروا أننا من لفحها سمر/ ولو قضيتم على الثوار كـــــلهم/ تمرد الشيخ والعكاز والحجر..!
عرفت فلسطين منذ القدم بأرض كنعان، حيث سكنتها القبائل الكنعانية العربية القادمة من الجزيرة العربية، أما أصل التسمية فلسطين فيرجع إلى "فلستا" التي وردت في السجلات الآشورية، وقد أطلق هيرودوت أبو التاريخ اسم فلسطين على الأرض الساحلية للجزء الجنوبي من سوريا الممتدة من سيناء جنوباً وغور الأردن شرقاً، وفي العهد الروماني أصبح اسم فلسطين يطلق على كل الأرض المقدسة، واستمر ذلك في العهد الإسلامي، حيث عرفت فلسطين باسم جند فلسطين أثناء التقسيمات الإدارية للدولة الإسلامية.
تعتبر فلسطين التاريخية حلقة الوصل بين قارات العالم القديم فهي التي تفصل قارتي آسيا وأفريقيا. كما أنها الامتداد الطبيعي لما عرف على مر الزمان بلاد الشام، التي تضم سوريا ولبنان والأردن وفلسطين، حيث لم تكن توجد أي تقسيمات حدودية فاصلة وهمية كانت أو طبيعية عدا التقسيمات الإدارية التي وضعت لتسهيل حكم المنطقة خلال الفترة من الفتح الإسلامي إلى الحكم العثماني.
ومع ضعف الدولة العثمانية تكالبت عليها الدول الاستعمارية الغربية في محاولة لتقسيم تركة هذه الدولة أو "الرجل المريض" كما اطلق عليها في ذلك الوقت فلم تكد تنتهي الحرب العالمية الأولى حتى كانت فلسطين قد وضعت في قالب حدودي رسم بدايتها ونهايتها من خلال اتفاق بريطاني ـ فرنسي كانت بدايته ما ورد في اتفاقية سايكس ـ بيكو، التي تحولت إلى واقع بعد رسم الحدود في عام 1920 والتي عدلت بعد سنتي 1922 و1923 لتضم مناطق المياه الجوفية والأنهار وتشكل قاطع يفصل بلاد المشرق العربي عن بلاد المغرب العربي، وقد وضع هذا الترتيب لضمان تحقيق الأطماع الاستعمارية في البلاد العربية من خلال إنشاء الكيان الصهيوني.
وتبلغ مساحتها 27 ألف كيلو متر مربع، أما حدودها: البحرالأبيض المتوسط غرباً وسوريا والأردن شرقاً عبر خط يبتدئ شمالاً بنقطة تقع إلى الغرب مباشرة من مدينة بانياس السورية، ثم ينحدر جنوباً محاذياً الشواطئ الشرقية لبحيرتي الحولة وطبرية ثم متبعاً مجرى نهر الأردن. مخترقاً البحر الميت من وسطه متجهاً بعد ذلك إلى خليج العقبة مرورا بوادي عربة. ويحد فلسطين شمالاً لبنان في خط متعرج يبتدئ غرباً برأس الناقورة على البحر المتوسط ثم يتجه شرقاً إلى قرية بارون اللبنانية، فشمالاً حتى قريتي المالكية وقدس الفلسطينيتين فالمطلة الفلسطينية، ثم شرقاً إلى تل القاضي ـ دان ـ إلى الغرب من بانياس السورية,أما الحد الجنوبي فيمتد من نقطة تقع جنوبي رفح على شاطئ البحر المتوسط إلى خليج العقبة.

أنفاسشهدت البروتستانية والأنجليكانية في العقود الأخيرة تشظّيات وانقسامات عدّة رافقها نشاط حثيث. تجلّت في ما يعرف بتيّارات "التيوكون" أو "النيوكون"، بالتتابع مختصرات اصطلاحي: "اللاّهوتيون المحافظون" و"المحافظون الجدد" في اللّسان الأنجليزي، أو ما ينعت تعميما باليمين المسيحي. وهي تيّارات تمتح رؤاها من التراث البروتستاني الأنجليكاني بشكل عام. فعلى خلاف التّراجع والثّبات الذي يسري في هيكل الكاثوليكية العام، بسبب الهرميّة المؤسّساتية، رغم محاولات اصطناع الإكليروس العَلماني، كجسر رابط بين رجالات الكنيسة وعموم النّاس؛ وبسبب تصلّب المواقف اللاّهوتية من عديد المسائل، مثل التدخّلات العلمية في الحمل، والموت الرّحيم، واستعمال موانع الحمل، والمواقف الصارمة من الجنسية المثليّة.
ففي فرنسا وحدها، تتشكّل الكنيسة، المدينة للتراث البروتستاني الأنجليكاني، من مكوّنات مختلفة، متضاربة ومتنازعة أحيانا، مثل: "جيش الخلاص" و"المعمدانيين"، و"الكاريزميين"، و"كنيسة المعترفين"، و"الإنجيليين"، و"الأصوليين"، و"التحرّريين"، و"اللّوثريين"، و"الميتوديين"، و"المشيخيين"، و"الإصلاحيين".
والواقع في أمريكا لا يختلف كثيرا عمّا عليه الحال في فرنسا، من حيث التمذْهُب والتشظّي، لكن بميزة مغايرة، تتمثّل في قوّة أنشطة النّحل هناك، وتوغّلها في النّسيج الاجتماعي، بشتّى بناه السياسيّة والتعليميّة والإعلاميّة.
في ما يتعلّق بالمجتمعات العربية، يبقى الإنجيليون، قياسا بالكاثوليك، أقلّ إلماما وتجذّرا بواقع تلك المجتمعات. وقد خلّف ذلك بينهم عدّة مغالطات وتقديرات خاطئة. جرّاء قلّة الاحتكاك، يتبدى العالم العربي أمام الإنجيليين فراغا، وأحيانا فوضى دينية ينبغي ترتيبها وإعادتها للأصول المسيحية. ولذلك تحاول الكنائس البروتستانية والإنجيلية في العالم العربي أن تعرض نفسها بوجه إنساني، بصفتها لم تشارك الأنظمة الاستعمارية الغربية في هجمتها على البلاد العربية، مقارنة بالكنيسة الكاثوليكية، التي وظّفت شبكاتها المتنوّعة لصالح الاستعمار، من "الآباء البيض" إلى "الأخوات البيضاوات" أحفاد شارل لافيجاري، إلى"الفرانشسكانيين"،  و"الكمبونيين" و"الكابوتشيين".
الرّؤية المانوية للعالم لدى الإنجيليين، أخيار معهم وأشرار ضدّهم، استلزمت تكثيف الحملات الصّليبية نحو العرب لإلحاقهم بمعسكر النّاجين. ولذلك كان موقفهم صريحا وعلنيا من حرب أمريكا في العراق، بصفتها حربا مقدّسة باسم القيم اليهودية المسيحية. ويعوّل المبشّرون الإنجيليون في مساعي الانزراع بين العرب على مصادرة شائعة بينهم، مفادها أن العرب يجهلون بشارة المسيح ولم يطّلعوا على أناجيله، كما يجهلون حتى تاريخ المسيحية في بلدانهم (والواقع أن الجامعات والكلّيات العربية من مشرقها إلى مغربها تخلو من أقسام علوم مقارنة الأديان وتاريخ الأديان والإناسة الدّينية وعلم اجتماع الأديان)، ولذلك يتوجّب إثارة اليقظة المعرفية بينهم تجاه بشارة المسيح.

أنفاس حصيلة القول إن العولمة الثقافية تحاول بما أوتيت به من قوة تقانية وإعلامية اكتساح التاريخ العربي وتنميطه حسب توجهاتها، مما يعني إمكانية اختراقه تمهيدا لإقحامه ضمن ثقافة تجارية تتحكم فها الشركات الكبرى إذا لم يسع المؤرخ العربي إلى تخليصه من أوحالها،
إذا كانت العولمة قد بدأت في عقد التسعينات من هذا القرن كمفهوم اقتصادي يقوم على مبدإ توحيد الأسواق ورفع الحواجز والقيود أمام الشركات الاقتصادية العملاقة المتعددة الجنسيات، والسماح بسيولة السلع والبضائع عبر أرجاء المعمور، فإن أثرها سرعان ما امتد إلى الفضاءات السياسية والاجتماعية والثقافية؛ وهذا الفضاء الأخير هو الذي يعنينا في الورقة باعتبار أن حقل التاريخ يعد إحدى واجهاته الأساسية. فما هي إمكانات تأثير العولمة الثقافية في مجال التاريخ العربي؟ وما هي الظرفية التي تؤطر موقف المؤرخ العربي في تعامله معها؟ وما هي الاستراتيجية المستقبلية لمواجهتها أو التفاعل معها؟ تلك جملة من الأسئلة التي يطمح هذا البحث إلى إثارتها ومحاولة الإجابة عنها.
المؤرخ العربي وظرفية تحديات العولمة الثقافية:
لا مراء في أن الواجهة الثقافية تعتبر أخطر الواجهات المعرضة لرياح التغيير التي تفرضها العولمة، نظرا لما أصبحت تمارسه الثقافات الأجنبية من تأثير واضح على الثقافات المحلية، وما يتمخض عن ذلك من سيولة في الأفكار والإيديولوجيات، وانتشار سريع ومدهش للمعلومات عبر الصور السمعية-البصرية والوسائل الإلكترونية.
في ظل هذه المتغيرات ذات الإيقاع السريع، صار من المتوقع أن يتأثر التاريخ العربي ومعه الهوية التاريخية العربية لاختراق خطير إذا لم يتم رسم منهج قادر على الجمع بين التصدي للعولمة وإيجاد منافذ سليمة للتفاعل معها في الوقت نفسه بوعي وتبصر. ومن هنا تبدأ مهمة المؤرخ العربي ودوره في مواجهة أخطار التحولات التي قد تصيب التاريخ العربي من جراء هيمنة العولمة، كما ينعكس دوره أيضا في إيجاد صيغ علمية ومعقولة للتفاعل معها.
وفي سياق هذه الثنائية من المواجهة والتفاعل، لا بد من تحليل الظرفية التي يتحرك فيها المؤرخ العربي والأرضية التي تشكل منطلقه، وفي هذا المنحى يمكن تسجيل الملاحظات التالية:
1 – إن تحديات العولمة للتاريخ العربي جاءت في وقت لم يصف المؤرخ العربي معركته بعد مع مخلفات التاريخ الاستعماري الذي يزخر بالتحريفات، وينطق بمنظور المحتل. فالمعركة لا تزال مشتعلة بين النظريات التي طبخها أساقفة المؤرخين الغربيين، ومحاولات المؤرخين العرب دحضها وإبراز قصورها، لكن نقطة النهاية لم توضع بعد. ولذلك يمكن القول إن تحديات العولمة تأتي في وقت لا يزال المؤرخ العربي يعاني من الإنهاك نتيجة معاركته للتاريخ الاستعماري، وهي بذلك تفتح ضده جبهة ثانية عن طريق فرض "تاريخ كوني" يسعى إلى تجاوز الهوية العربية وإلغاء خصوصيتها.
2 – ومن أسف إن التاريخ الاستعماري نجح في اختراق جوانب من المنظومة الحضارية العربية، وهو ما يؤكده وقوع بعض المؤرخين العرب أحيانا عن غير قصد في مسلكيات توجهاته فكرا ولغة، باستثناء الفرقة الناجية منهم. معنى ذلك أن المؤرخ العربي يدخل المعترك مع أو ضد العولمة في وقت صار الاختراق الثقافي واقعا ملموسا، وأصبح الاستلاب الفكري نغمة متواترة ومألوفة تتم تحت سمع وبصر العالم العربي.

أنفاس في نطاق سعي الكنيسة الكاثوليكية لحصر أنشطتها، تنشر دوريا تقريرا إحصائيا بعنوان: -ANNUARIUM STATISTICUM ECCLESIAE-، تتناول فيه قياس تنامي أتباعها ورجالاتها ومؤسّساتها. والتّقرير عمل رسمي داخلي، يعدّه المكتب المركزي للإحصاء، وقد صدرت النسخة الأخيرة عن مكتبة الفاتيكان سنة 2006.
بلغت أعداد الكاثوليك المعمَّدين في العالم 1.098.366.000، ما يساوي 17،2% من العدد الجملي لسكّان المعمورة. ويتوزّع العدد، بحساب المليون، على النّحو التالي: إفريقيا (148.817)، أوروبا (278.736)، أمريكا (548.756)، آسيا (113.489)، الأوقيانوس (8.568).
وأمّا كبريات البلدان الكاثوليكية -بحساب المليون نفر- فهي: البرازيل (153.440)، المكسيك (94.964)، الفلبّين (67.112)، الولايات المتّحدة (66.668)، إيطاليا (56.036)، فرنسا (45.988).
بقيت الأعداد الدّيمغرافية للكاثوليك في أوروبا تقريبا ثابتة، مع أن عدد المعمدّين خلال 2004 سجّل تدحرجا نسبيا مقارنة بـ2003. أمّا بالنّسبة للعدد في إفريقيا، فقد ارتفع ثلاث مرّات خلال ربع قرن، وهو الازدياد الأكثر ديناميكية في العالم الكاثوليكي. كان العدد خلال 1978 55 مليونا تقريبا، وقد بلغ مع حلول 2004 149 مليونا. أمّا في القارة الأمريكية فالأوضاع تشهد استقرارا، حيث 62% من السكّان هم كاثوليك. وفي آسيا تطوّر العدد خلال نفس الفترة، من 2.5% إلى 3% مع 2004. ضمن هذه التحوّلات تبقى القارة الأمريكية تحوي أكثر من نصف كاثوليك العالم.
أما فيما يخصّ أعداد رجال الدّين فقد شهد تناميا، ارتفع عدد الأساقفة من سنة 1978 إلى 2004 بنسبة تفوق 28%، تحوّل فيها العدد من 3714 إلى 4784 أسقفا، بمعدّل عمر (65 سنة). الملاحظ أن الارتفاع الهائل في إفريقيا (%45.8+)، تليها الأوقياونوس (%34+)، ثم آسيا (%31.4+)، ثم قارة أمريكا (%27.2+)، وأخيرا أوروبا بنسبة (%23.3+). ومع تلك التطوّرات يبقى تركّز العدد الأكبر للأساقفة في أمريكا وأوروبا.
وعادة في نطاق سعي كنيسة روما للتحكّم بكنائس الأطراف وتفادي أي تململ، على نمط ما حدث عقب التجمّع الأسقفي بمادلين في كولمبيا سنة 1968، تعمل جاهدة لمزج التشكيلة الأسقفيّة المحلّية بموفدين غربيين أساسا، وقد بلغت أعداد هؤلاء 802 أسقفا يرافقون المحلّيين الذين يناهزون 3982. ومن هذا الباب توتّرت علاقة الفاتيكان مع الصّين، التي رفضت تلك الهيمنة الدّينية على ترابها من أجانب.
ولكن برغم تزايد عدد الرّهبان في إفريقيا بين 1978 و 2004، بنسبة تقدّر بـ%85+، وفي آسيا بنسبة %74+، تبقى أوروبّا محتفظة بالقسم الأكبر من الرّهبان، برغم التّراجع العددي فيها.
البيّن من خلال تحليل هذه الإحصاءات أنّ تراجع الكاثوليك في الغرب على مستوى الكوادر أيضا، وتناميهم بخلاف ذلك في القارات الفقيرة. المسألة عائدة بالأساس إلى ترسّخ وعي ذاتي داخل الفضاء الدّيني الغربي، أن نمط الرّهبنة الذي تفرضه الكنيسة هو نمط غير متّسق مع العصر الحديث، لما فيه من تبني أشكال الرّهبنة الكلاسيكية، بكافة شروطها وإلزاماتها المجحفة، من عزوبة وقطع مع العائلة الأصل وانضمام لعائلة الإكليروس، بدعوى التفرّغ التام للكنيسة.

أنفاسمنذ اعتلاء البابا بندكتوس السّادس عشر كرسي البابويّة، شهدت الكنيسة الكاثوليكية تحويرات ومراجعات ذات شأن، مسّت اللّيتورجيا وأجهزة المؤسّسة الدّينية. وآخر هذه التحويرات الإقرار في الرّابع عشر من سبتمبر من العام الحالي العودة للقدّاس الترنتي –نسبة لمدينة ترنتو الإيطالية-. ويتمثّل التّراجع، في إقرار أداء القدّاس المذكور، وما يتضمّنه في نصّه من نعت لليهود بالمخاتلة والعمى ودعوة لهم بالتوبة والاهتداء للمسيحيّة، مما أثار بعضهم واعتبروه تنكّرا للمصالحة.
أمّا الجانب الأهمّ في الإصلاح اللّيتورجي فيتمثّل في إحياء استعمال اللّغة اللاّتينية في الصّلاة المسيحية، بعد أن جمدت على إثر المجمع الفاتيكاني الثّاني (1962-1965). تأتي العودة في ظلّ ردّ الاعتبار للعهد الترنتي -Tredentine-(1545-1563)، الذي تميّز بالتقليدية والإصرار على وحدة الشّعيرة، كردّ فعل على ما سمي بانحرافات المصلح البروتستاني مارتن لوثر حينها. فما هي مقاصد هذه العودة؟ كانت دواعي التخلّي خلال العقود السّابقة عن اللّغة اللاّتينية بدافع تقريب القدّاس من النّاس، وإقامته بلغات حيّة مفهومة، بدلا من اللّغة اللاّتينية المتوارية. ترتّب عن اتخاذ ذلك القرار المجمعي تبرّما لعديد رجال الدّين، باعتبار اللاّتينية لغة الكنيسة، والتي صارت تجري مجرى اللّغة المقدّسة، كما شأن العبرية والعربية لدى اليهود والمسلمين. نظرا للحميمية النّاشئة عن تزاوج المسيحية المأوربة مع اللاّتينية، اللّغة الأمّ لعديد اللّهجات واللّغات المنحدرة منها، كالفرنسية والكورسية والإيطالية والسّردينية والإسبانية وغيرها.

كان مبرّر التخلّي عن اللاّتينية بدعوى ابتعاد النّاس عن هذه اللّغة وعدم فهمهم عظة يوم الأحد، بصفة القدّاس موجّه لعموم النّاس لا لرجال الدّين، الذين يفترض إلمامهم بهذا اللّسان. والواقع، وإن بقيت اللاّتينية تدرّس في الثّانويات في البلدان الغربية في التخصّصات الأدبية، فهي عبارة عن تقليب جثمان ميّت، فهي لغة منقرضة لا يتكلّمها الطلاّب، والغرض من دراستها تعميق فقههم بلغاتهم المحلّية وتوسيع دائرة الفهم والدلالة لديهم. وقد عاينت موت اللّغة اللاّتينية حين كنت طالبا في الجامعة البابوية الغريغورية بروما، فطلاّب اللاّهوت يدرسون اللاّتينية لا ليستعملونها ولكن لإعانتهم على ربط صلاتهم بالمفاهيم والدّلالات اللاّهوتية، ذات الصّلة بالكتاب المقدّس المدوّن بتلك اللّغة لا غير.
لكنّ إلغاء اللاّتينية من الاستعمال في القدّاس مع قرار المجمع الفاتيكاني الثّاني، أوقد نارا بقيت خامدة، وأثار ثائرة العديد من رجال الدّين، ممن لم يتقبّلوا هذا القرار، الذي اعتبروه استئصاليا في حقّ تراثهم الكنسي. كان المونسنيور مارسال لوفابر الفرنسي أبرز من تزعّم الانشقاق، وشقّ عصا الطّاعة للكنيسة الكاثوليكية. انعزل رفقة جمع من رجاله وتحصّنوا بكنيسة القدّيس نيكولا دي شاردوني بباريس، نظرا لتوفّر حرّية أوفر في فرنسا. عرفت الجماعة حينها بـ"الأصوليين" أو بفتنة لوفابر تحقيرا لهم، وبلغت الأزمة أوجها بتسليط سيف الحرمان على الرّجل، وهو أعلى العقوبات التي يصدرها مجلس مراقبة العقيدة، وريث محاكم التّفتيش سيّئة الذّكر.
وفي نطاق اشتغال البابا الحالي راتسينغر على لم شمل الكنيسة، تركّزت اهتماماته على إرجاع أتباع لوفابر إلى حضن الفاتيكان. كانت استراتيجية المصالحة تأتي ضمن خطّة أشمل، من ردّ الاعتبار للّغة اللاّتينية. ففي ظلّ النزيف الذي تعرفه الكاثوليكية في فرنسا، والتي تشهد أسوأ أيّامها، لا تضاهيها فيه فترة ما بعد الثّورة الفرنسية، أو فترة إقرار العلمانية والفصل بين الكنيسة والدّولة سنة 1905.

أنفاس أخذت معطيات التراث القديم تعكس أصداءها مغذية ومعمقة للتيارات الفكرية الإسلامية منذ أواخر عصر الراشدين. ولم يكن بوسع الخلفاء مقاومة هذه التأثيرات طالما لم يستطيعوا وقف حركة التطور الاجتماعي الجانحة نحو «الدنيوية». بل أخذت الثقافة الدينية تفيد من تراث الأوائل في بلورة اتجاهاتها، وتباينت هذه الاتجاهات وفقاً لمعطيات الواقع السياسي والاجتماعي الذي أعيدت صياغته في العصر الأموي.
وتعبر نوعية الثقافة في المدن الإسلامية القديمة والمستحدثة عن خاصية التنوع والتباين تلك في جلاء تام، إذ ظهرت بواكير مدارس فكرية في دمشق والفسطاط والمدينة والبصرة والكوفة. كان لبعضها تأثيرات تالية على حواضر الغرب الإسلامي مثل القيروان وقرطبة. ويرى الأستاذ أحمد أمين أن هذا التباين والتخصص لم يكن جزافاً بل كان انعكاساً لأوضاع اجتماعية.
ففي المدينة ـ التي فقدت مركزها السياسي بانتقال الخلافة إلى دمشق ـ حيث استقرت فلول «الأرستقراطية الثيوقراطية» ـ ساد تياران يتمشيان مع الواقع الجديد، أولهما ديني قح ويتمثل في دراسة الفقه والحديث، ويعول على النص أكثر من التأويل. ومذهب مالك يقدم في هذا الصدد أقوى دليل. والثاني دنيوي ترفي مرح يتمثل في الشعر والغناء والطرب والملح والنوادر، ويعكس حالة الثراء لتلك الأرستقراطية المؤثرة للدعة المجترة أصداء زمن الجاهلية.
وفي دمشق ـ مركز الثقل الجديد ـ تلونت الثقافة بالوضعية المستحدثة مع تأثيرات من تراث السريان، في محاولة بلورة شخصية فكرية مميزة، وليس جزافاً أن يختص أهل الشام بمذهب في الفقه يختلف عن مذهب أهل العراق، أعني مذهب الأوزاعي الذي لا يخلو من بصمات «هللينستية». وازدهار الشعر السياسي والخطابة مرده خدمة القضية الأموية أو معارضتها. بل ليس جزافاً أن ينمو الفكر السياسي «الجبري» والإرجائي في أحضان دمشق الأموية. وكان رواج القصص والأخبار وسير القدماء تعبيراً عن الطابع الأرستقراطي لعقلية «النظام الأموي» وتنطق قصور الأمويين ومنشآتهم المعمارية ذات الطابع العسكري بتأثيرات يونانية تعبر عن خصائص نظام فرض وجده بالقوة بدلاً من الشرعية.
وفي الكوفة والبصرة ـ وهما مصران عربيان مستحدثان منافسان لدمشق ـ امتزجت الأرستقراطية العربية بالموالي، وكان عرب العراق في العصر الأموي دون عرب الشام من حيث المكانة الاقتصادية والاجتماعية، ولا غرو فقد كانوا إما مناصرين للأرستقراطية الثيوقراطية أو من «أنصار التيار الثوري» الذي انقسم إلى شيعة وخوارج. وقد أفضى انتقال السلطة للأمويين، وكذا اختلاطهم بالموالي، إلى تضييق الهوة الاجتماعية بينهم واتخاذهم معاً موقف المعارضة.
وعبرت ثقافة المصرين عن هذا الوضع أصدق تعبير، فمذهب أبي حنيفة في الفقه يعول على القياس والرأي، وذيوع «القدرية» في مواجهة «الجبرية» يتسق مع المنحى نفسه، وتضافر العرب والموالي على دراسة اللغة العربية ووضع أصول النحو يعبر عن عملية المزج السلالي والثقافي. وتبني الآراء السياسية الثورية ذات المغزى الاقتصادي الاجتماعي ـ والتي لا تخلو من بصمات «مزدكية» غصلاحية ـ لم يحدث عفواً، إنما نبتت هذه الأفكار بفعل المناخ الملائم الذي هيأته إرهاصات البورجوازية.

شكّل الارتباط المتين للنصّ القرآني بالنصّ التوراتي، سواء في المجالات العقدية أو التّشريعية، إضافة إلى تجارب التّعايش الاجتماعي المبكّرة بين أبناء الملّتين، الإسلامية واليهوديّة، مرجعيّة ثريّة للفكر الإسلامي الكلاسيكيّ وللفكر العربي الحديث في معالجة الظّاهرة اليهوديّة. وبفعل ثقل التاريخ واستفزاز الوقائع، وما نجم عنهما من تطوّرات، جرّاء تغيّر بنية الخارطة السياسيّة للعالم العربي، بتأسّس دولة عبريّة تستلهم وجودها الحضاريّ من المقاصد العامّة للتّراث التوراتي، تأتّى انشغال الفكر العربي المستجدّ باليهوديّة واليهود. فكان الاهتمام بهذا المعطى، بالقدر الذي يثيره الماضي فإن الحاضر يستلزمه، انجرّ عن ذلك تراكم قائمة مرجعية دراسيّة هامّة في المكتبة العربيّة، انشغلت بهذا الحقل، تمازج فيها الإيديولوجي بالعلمي والدّيني بالسّياسي.

جاء اهتمامنا بالمقاربة الدّينية لليهوديّة في الفكر العربي، خلال النّصف الثّاني من القرن العشرين، ضمن هذا الانشغال، فما هويّة هذه المقاربة؟

إنها نظريّة فكر ومنهجه لفكر آخر، سائرة بحسب منظومة تعقّل مسلَّطة على حقل المقدّس في دين محدّد، أطلقنا عليها تسمية الاستهواد. رمنا من خلالها متابعة محاولات التفهّم الدّائرة في حقل الدّيني والمقدّس، السّاعية لفهم الظّاهرة اليهوديّة، بغية الغوص في مدلولات تشكّلها وخفايا رموزها. فالمقاربة الدّينية محاولة لحصر الموضوع في حقل الفكر الدّيني، وإن دعت الحاجة للاستعانة بمناهج حقول أخرى، تاريخية وسوسيولوجية، لمتابعة المسار اليهودي العام. وقد تمّ تحديد مجال هذه المقاربة بالفكر العربي، وبالنّصف الثّاني من القرن العشرين، لضرورات منهجية.

أوّلا: حتى يتيسّر حصر الأدبيّات والرّؤى والأفكار المعنيّة، لتقديرنا أن الانتاجات العربيّة تهون متابعتها على الباحث الفرد، وتتعذّر لو وسِّعت لمجال الفكر الإسلامي، لامتداد حيزه خارج اللّسان العربي، إلى لغات أخرى، كالأردية والتركية والفارسية وغيرها، وهو ما يتطلّب طابور باحثين.
ثانيا: التزامنا بالنّصف الثّاني من القرن العشرين لاعتبارات عدّة، منها انخراطنا في الإشكاليات المطروحة على فكرنا الحديث أساسا، ولما عرفه الانتاج العربي الحديث في هذا المجال، من تراكم كمّي وكيفي مع هذه الفترة، حيث بدأ التخصّصي يؤسّس هويّته واستقلاليته في ميدان اليهودية؛ إضافة إلى قناعتنا أن دراسات الأديان، في أبعادها التّاريخية والاجتماعية، لا تجد فاصلا في تداخلها مع الحديث والحاضر، فالخطّ الرّابط متّصل لا منفصل، إذ "تاريخ الأديان" جدّ مرتبط بـ"حاضر الأديان".

أما عن هيكلة البحث فقد أتت كالآتي: اهتمّ الباب الأوّل بالفكر العربي واليهودية، الذي عالجنا في مستهلّه دواعي الانشغال باليهودية في الفترة الحديثة، مشيرين في ذلك إلى المنشأ السّياسي لحقل هذه الدّراسة، ولما للمسألة الفلسطينية من دفع للاهتمام بالإسرائيلي وبعث اليهودي الهاجع في الذّاكرة الإسلامية المبكِّرة.