تتيح العودة إلى تاريخ المغرب للباحث الفاحص إمكانية الوقوف على ثلاثة ثوابت رئيسية تحكمت إما عن طريق التناوب أو مجتمعة في تحديد مسار هذا التاريخ ومنعطفاته الكبرى، ونعني بهذه الثوابت الصحراء، الجبل والبحر. وإذا كان حضور الصحراء في التطور الحضاري للمغرب قد حظي ولا يزال باهتمام الدارسين والباحثين، فإن دوري الجبل والبحر ظلا بمنأى عن السبر والتناول العميقين. فباستثناء قلة من الدراسات التي تناولت سيولة الحركة التجارية في بعض المدن المرفئية، لا نكاد نعثر على أعمال جادة تتيح فرصة توضيح مساهمة البحر في تخصيب الحياة السياسية والاجتماعية والذهنية للمغاربة عبر مختلف الحقب والعصور.
وبالمثل، فإن الجبال المغربية ظلت موضوع اهتمام علماء الأرض والجغرافيين، وقلما لفتت أنظار المؤرخين. ونعتقد أن غياب دور الجبال من جدول أعمال المؤرخين يؤثر على قيمة عدد من الخلاصات التي تم التوصل إليها بخصوص التطور التاريخي للمجتمع المغربي. ذلك أن الجبل لم يكن فقط مصدرا للمياه والأخشاب والمعادن، بل كان أيضا منطلقا وملجأ للعديد من التدفقات البشرية، كما كان أيضا نقطة انطلاق إحدى أهم دول الغرب الإسلامي خلال العصر الوسيط ونعني بها دولة الموحدين. وإذا كنا في هذا المقال سنقتصر على مناقشة دور البحر في تاريخ المغرب الوسيط انطلاقا من دراسة حضوره خلال عصر الموحدين بالذات، فإننا نأمل في العودة إلى تبيان دور الجبال وحضورها الوازن في صنع تاريخ المغرب في مناسبة لاحقة.
لقد ارتبط تاريخ المغرب منذ أقدم حقبه وعصوره بالبحر، ولهذا السبب بالذات، فإن أية قراءة لهذا التاريخ لا تستحضر العمق البحري للمغرب تعد ناقصة إن لم تكن غير ذات جدوى. فموقع المغرب على البحر الأبيض المتوسط جعله نقطة عبور أساسية للعديد من الشعوب والأجناس الباحثة عن موطئ قدم لها بالقارة الإفريقية. كما أن موقعه على المحيط الأطلسي جعله أيضا معبرا أساسيا للمغامرين الأوروبيين الباحثين عن المواد الأولية والأسواق واليد العامل الرخيصة.
وهكذا، فإن البحر ظل دوما حاضرا في مجمل التطور الحضاري الذي عرفته المجتمعات الإنسانية وضمنها المجتمع المغربي، ولم يقتصر دور البحر على المساهمة في النشاط الاقتصادي بل كانت له كذلك أدوار أساسية أخرى نذكر منها مساهمته في نقل التيارات الحضارية والثقافية من بلد إلى آخر ومن قارة إلى أخرى. وينبغي الاعتراف في الآن نفسه بأن البحر كان له حضوره الوازن في ترجيح كفة الدول خلال فترات الحروب والصراعات العسكرية، من هنا كان منشأ الاهتمام بتطوير الأساطيل الحربية. وقد أصاب المؤرخ الفرنسي فرنان بروديل F.Braudel حينما أشار إلى أن المتحكم في البحر يكون دوما هو المتحكم في الثروة، وأن البحر لا يقبل إلا سيدا واحدا.