أنفاسبعد أن خسرت الكنيسة الوافدة أغلب مواقعها في بلدان المغرب العربي، مع اندحار الاستعمار الفرنسي والإسباني والإيطالي، الذي كانت تتوارى خلفه، والذي حاولت لاحقا أن تجهد نفسها في التملّص من تبعاته والتطهّر من إرثه، لتسلك سياسة مغايرة تتلاءم مع حقبة ما بعد الاستعمار. تحاول أن تعرض رسالتها في الراهن تحت مبرّر الشهادة الاجتماعية. وإن لم تحقق الكنيسة في سالف عهدها اختراقا يذكر، يبرّر ويشرعن حضورها في المنطقة، بفعل تلاحم النظر للكنيسة والاستعمار في المخيال الشعبي، وهو ما حدّ من توغّلها في الأوساط الاجتماعية، برغم امتزاج أنشطتها الخيرية والتبشيرية، التي امتدت على ما يناهز القرنين، قبيل الاستعمار وأثناءه.
الكنيسة تستند في تبرير حضورها على ادعاء، يتلخّص في أن المنطقة تابعة تاريخيا لحيز المسيحية الرومانية، والحقيقة أن شمال إفريقيا ما تنكّر لماضيه المسيحي، فقد كان معقلا من معاقل هذا الدين الجليل، حيث صعّد عدة بابوات لسدّة البابوية وقدّم قوافل الشهداء والعلماء، بيد أن ما يجحده القساوسة أو يحاولون نكرانه، وهو التطور العقدي الذي مرت به المنطقة، من الديانات البدائية إلى التوحيد الخالص مع الديانة الإسلامية.
فقد فرضت حقبة الاستقلالات على الكنيسة سياسة جديدة، هيمن فيها التعامل مع المغرب العربي ضمن معطيين: أحدهما برغماتي والآخر استراتيجي، يتمثل الأول في التسليم على مضض بهيمنة الإسلام والطابع العروبي على المنطقة، والثاني في مواصلة نقض تلك البنية الحضارية الموسومة بسمة بالغزو، مما يحوّل الإسلام والبعد العربي إلى دخيلين وطارئين، أملا في العودة بالمنطقة إلى فترة ما قبل الفتح الإسلامي. هذا الطرح نجده متطوّرا بالأساس مع أسقف الجزائر السابق هنري تيسيي، خصوصا في كتابه غير المنشور بالعربية: "مسيحيون في الجزائر: الكنيسة الواهنة" 2004.

أنفاستعتبر مخطوطات البحر الميت من الوثائق المثيرة للجدل بين الديانتين اليهودية والمسيحية خلال العقود الأخيرة. وبرغم مرور نصف قرن على اكتشافها والشروع في قراءتها وتحليلها، لا تزال مثار تساؤل في الأوساط العلمية، اللاهوتية والعلمانية، في الفضاءين اليهودي والمسيحي، بما أوحت به من تعارضات وتخمينات واستطرادات متنوعة. وليس هذا الأمر عديم الصلة بالحضارة العربسلامية كما قد يتبادر للأذهان خطأ، وإنما يأتي كإحدى الثروات المفتقدة بفعل الاستعمار وآثاره المزمنة.
1- قصّة المخطوطات
تم العثور على هذه المخطوطات/الوثائق بين سنوات 1947 و 1956 في المغارات الجبلية الواقعة غرب البحر الميت، بمناطق قمران (عمران)، ومربعات، وخربة ميرد، وعين جدي، ومسادا. وبحسب الفحص المجرى بالكربون 14، تبين أن كتابتها تعود إلى الفترة ما بين القرن الثاني قبل الميلاد ومنتصف القرن الميلادي الأول. عثر عليها الفتى البدوي الفلسطيني محمّد الديب، عندما كان يفتّش عن إحدى عنزاته الضائعة قبل عودته إلى نجع قبيلته التعامرة، الجائلة في المنطقة الممتدة بين بيت لحم والبحر الميت. كان الصبي يبحث عن عنزة فوق المرتفعات الصخرية، فشاهد فتحة صغيرة مرتفعة في سفح جبل ، رماها بحجر أول وثان ، وكان في كل مرة يصغي إلى ما ينبئ بارتطامها بالفخّار لا بالأرض.
وبحسّ مميز لدى البدوي، خصوصا إذا ما تعلّق الأمر بأدوات مخبره المعرفي (آثار الأقدام، الطقس، الحجر، المعرفة بالطير والحيوان، الفراسة...) تسلّق محمّد المرتفع حتى بلغ فوهة السطح واستطاع أن يشاهد بعينيه الثاقبتين في ظلام المغارة عددا من الجرار الفخارية. عاد إليها في اليوم الموالي رفقة أحد الرعاة الذي ساعده على نزول المغارة، واستطاع أن يتثبّت مما بداخلها من جرار حافظة للفائف، حاوية على سبع مخطوطات، أخرجا وباعها لأحد تجار المقتنيات القديمة في بيت لحم آنذاك، يعرف باسم كاندو. وبعد أن تفرّقت أجزاء بين مشترين عدة بدأ التنبه إلى قيمة تلك الوثائق. في أثناء تلك الفترة اندلعت الحرب العربية الإسرائيلية ليتلوها إعلان الهدنة في 7 جانفي 1947، أصبحت بعدها منطقة قمران تحت سيطرة الأردن، مما سمح للأردنيين بتنظيم عمليات تنقيب ثانية، بإشراف هاردنج البريطاني الذي يشغل مدير الآثار الأردنية والكاهن رولان دي فو، مدير المعهد الكتابي الفرنسي بالقدس الشرقية، في مغارة محمّد الديب، إضافة إلى مسح المنطقة المجاورة، مما ساعد على توضيح التواريخ.

أنفاسحكم الفراعنة المصريون القدس في مطلع القرن السادس عشر قبل الميلاد، واستمرت فترة النفوذ المصري نحو مائتين سنة وقد عثر على هذه القطعة الأثرية عام 1926م ويظهر الاسم مرة أخرى في إحدى الرسائل التي تم اكتشافها ضمن مجموعة من الألواح عام 1887 في تل العمارنة في مصر الوسطى، وتعود هذه الألواح إلى عام 1350ق.م. وفي هذه الرسائل يرد اسم ملك أورشليم عبد خيبا الذي وجه هذه الرسائل إلى فرعون مصر،فقد تعرضت المدينة إلى غارات البدو الخابيرو (وهم العبريون )، مما اضطر الوالي المصري عبدي خيبا أن يستنجد بأمنحوتب الرابع (أخناتون) ولكن ظروف مصر حينئذ حالت دون إنقاذ الموقف.
ولم يعد الحكم المصري للقدس إلا في زمن سيتي الأول (1317-1301) قبل الميلاد ، ويستدل من إحدى الرسائل التي أرسلها عبدي خيبا إلى سيده اخناتون أن سكان المدينة قد اضطروا إلى مغادرتها والهرب إلى الجبال وبعضهم قد التجأ إلى مصر، حيث جاء في الرسالة ((وأخذ الفلسطينيون يهاجرون رعباً من فظائع بدو الخابيري، فتركوا بلادهم واعتصموا بالجبال)) .
ويؤكد المؤرخ ” جيمس هنري برستد ” أنه حتى فى الفترة التى كان لإسرائيل فيها كيان ونفوذ فى (يبوس) وفى عصرهم الذهبى من داود إلى سليمان عليهما السلام كان ملك اسرائيل آن ذاك بمثابة والى على فلسطين تحت السيطرة المصرية.
العصر اليهودي:
إن أول كيان لبني اسرائيل أسسة موسى عليه السلام يوم جمع شملهم وأنقذهم من غربتهم في مصر ، وأتى بهم إلى أرض كنعان .
ويقول غوستاف لوبون : … غير أن استقرار العبريين بفلسطين تم بالتدريج على ما نرى، فالعبريون قضوا زمناً طويلاً ليكون لهم سلطان ضئيل في فلسطين لا أن يكونوا سادتها. ويضيف : وفي فلسطين كان يعيش اليبوسيون …، وكان السلطان في فلسطين للفلسطينيين … ، وكان ذلك حتى عهد داود .

أنفاسالأدب الإنجيلي ونشأة النص المقدّس:
خلال القرون المسيحية الأولى، شاع في فلسطين وما جاورها تقليد كتابة دينية روحية، ذو طابع عرفاني، نُعت لاحقا بالأدب الإنجيلي، والكلمة -إنجيل- في أصلها اليوناني، معناها البشارة والخبر السار. ومنذ ما يزيد عن سبعة عشر قرنا، اندثر نص من ذلك الأدب، منسوب للحواري يهوذا سمعان الإسخريوطي، ضمن حملة إتلاف منظَّمة للمؤلفات، التي لم تحز مباركة الساهرين على الجماعة المسيحية الناشئة. كما ساهمت عوامل أخرى في اختفاء عديد النصوص، جراء قسوة المطاردة الرومانية لأتباع المسيحية الأوائل، وما صاحبها من تستر وتقيّة. فقد كانت حقبة القرون المبكرة حرجة على أتباع السيد المسيح، حتى عرفت في التاريخ الكنسي بـ"عصر الشهداء"، لكثرة ما سقط فيها من ضحايا. تضافرت تلك العوامل، لتجعل مجمل الأخبار المروية عن إنجيل يهوذا سمعان الإسخريوطي، الحواري الذي يعنينا هنا، واردة عن خصومه.
فقد أدرك آباء الكنيسة، منذ البداية، خطورة إشكالية تعدد الأناجيل. جرت محاولات للخروج من المأزق، سواء عبر إضفاء صدقية عن بعضها ونزعها عن غيرها، أو عبر محاولات صياغة أسفار موحدة مستخلصة من النصوص الحائزة على شرعية، كالذي قام به السوري ططيانس حوالي 175م، مع ما عرف بسفر الدياتسرون-Diatearon-، أو الرباعية، بحسب الترجمة الحرفية للكلمة اليونانية، وهو أول ملخص يقدّم الأناجيل الأربعة ضمن رواية موحدة غير مجزأة.
فمنذ تحول الإنجيل إلى أناجيل، وما رافقه من يأس للعثور على الإنجيل الكامن خلف الأناجيل، دخلت المسيحية في إشكالية بشأن مشروعية النص المقدس ومصداقيته، فأي النصوص يحوز تلك الأصالة، أو بتعبير كنسي القانونية.
ربما تستدعي المسألة عودة للأصول، للبدايات، لتطارح أسئلة بشأن علاقة المسيح (ع) بالإنجيل، من حيث كتابته من عدمه، خاصة وأن كتابة النصوص المقدّسة غالبا ما أهملها أصحابها وشغلت الأتباع، وضمن أية علاقة جدلية تنزّل النص وحيا أم إلهاما؟ ففي الفهم السائد بين أتباع المسيحية اليوم، يُعتقد أن العهد الجديد وما تضمنه من أناجيل ورسائل، كتبها الله عبر مؤلفين بشر. لذلك يسود الاعتقاد أن النص مشترك البناء، بين ملهِم إلهي ومحرّر بشري، توسط بينهما الروح القدس، صاغه المدون بأسلوبه ولغته وتعبيراته. وقلّ من المسيحيين من يعتقد أن النص موحى مبنى ومعنى، إلا بعض النحل الأصولية، كشأن بعض الفرق البروتستانتية الأمريكية. فقد صار ذلك من الخرافات التي لا يصدقها طالب مبتدئ في الدراسات الدينية المقارنة.

أنفاساللّيل في دمشق حديقة من الياسمين بأضوائها البيضاء المتناثرة على سفح جبل قاسيون ذلك الجبل الذي ورد في بعض الأخبار أنه كان مأوى آمنا لعديد الأنبياء والصالحين و يروى أيضا أن أهل دمشق كانوا إذا احتبس القطر لديهم أو غلا السعرعندهم أو جار السلطان عليهم أو كان لأحدهم حاجة تعسرت عليه صعدوا إلى قاسيون سائلين الله فيجيب دعواهم...
   غير أن الزائر لدمشق اليوم أضحى يرى البناءات قد تسلقت إلى القمة شيئا فشيئا حتى بات جبل قاسيون ينوء بالكتل الإسمنتية فإذا خيم الليل لاح تحت السماء قبة مزهرة بالنجوم وهي تطل من شاهق على هذه المدينة العريقة التي يعود بناؤها إلى أربعة ألاف سنة و رغم توالي العصور وتعاقب الحضارات ما فتئت تنبض بالحياة والجمال...
   وأنا في في دمشق تذكرت ذلك الشعور نفسه الذي ينتابني كلما دخلت المدن العربية القديمة مثل فاس والرباط ومراكش وتلمسان و تونس وصفاقس والقيروان وطرابلس و القاهرة وبغداد والبصرة... إنه شعور الأنس والطمأنينة والألفة مع الجدران والدروب و الأبواب  فهذه المدن التي زرتها سرت فيها بشوق عارم كأنني أحد أولئك اللّذين عاشوا فيها فعاشروها فترة من غابر زمانها...
    دمشق ـ يقال لها بين الإخوة في سوريا " الشام " وهي على سفح جبل قاسيون القائم في سلسة من الجبال تشبه إلى حد بعيد سلاسل الجبال في الجنوب التونسي لكنها تمتد على ضفاف نهر بردى حتى الغوطة وهي منطقة البساتين وهذا النهر المنحدر مع المدينة أقيمت عليه الجسور والبنايات والساحات أيضا فتراه يظهر حينا ويغيب حينا، لكنه عند وسط المدينة أقيمت عليه النوافير في أشكال بديعة حيث  ترى الماء يدور منها في حلقات تتشابك أو تتوارى أو تتقاطع و تزيدها الأضواء روعة على روعة خاصة أن القمر في أواخر  الصيف بنوره الخافت يجعل من السهر والسير على ضفاف بردى تيها و تماهيا في سحر الشرق القديم...

أنفاسنصّ: دارن. أ. شِرْكات
وكريستوفر.ج. إلّيسيون*
مدخل
مما يلاحظ أن علم الاجتماع الديني بصدد اجتياز مرحلة تطوّر جوهرية، سواء فيما يتعلّق بالجانب المنهجي أو الفهمي. فقد عاينت الهيئات العلمية المنشغلة بدراسة الدين تطوّرا غير معهود للمشاركات في الملتقيات والتعاون الدراسي، وما رافقه حديثا من إلحاق وحدة علم الاجتماع الديني بالجمعية السوسيولوجية الأمريكية. وقد أعطت الكتابات النظرية والتطبيقية الأخيرة في علم الاجتماع الديني، التي بلغ صداها أعمدة عديد الصحف الجادة، دفعًا لإنعاش الحوار ولإثارة النقاشات المختلفة. فللمرّة الأولى منذ الستّينيات، ينحو باحثون مختصّون في حقول مغايرة، للتوّجه بأبحاثهم نحو مشاغل علم الاجتماع الديني، وكذلك للسعي لبلورة نظريات لها صلة بهذا العلم. فقد مثّل هذا التطوّر مفاجأة حقّة لعديد علماء الاجتماع، الذين حافظوا على مقولات نظريات العلمنة، التي تقدّر تقهقر دور الدين من الحياة الاجتماعية، وتراجع قوة التكتّلات الدينية، وكذلك تقلّص الالتزام الديني الفردي. وبالفعل، فقد أجْلت الأحداث الجارية في العالم، منذ انقضاء السبعينيات وحتى منتهى القرن العشرين، حضور الدين القوي والفاعل. وبحسب البعض، يعدّ ظهور الرؤى الدينية الأصولية في الولايات المتّحدة وغيرها من الفضاءات، إضافة إلى تأجّج النقاشات العامة بشأن الشعائر والحركات الدينية الجديدة، تقريبا الأحداث الأوغل أثرا التي قادت لمراجعة التفكّر في الدين. كما كان للحوارات النظرية والاختبارية بين علم الاجتماع الديني وقطاعات علم الاجتماع الأخرى، خصوصا ما تعلّق منها بالعائلة وعلم الاجتماع الطبّي والحركات الاجتماعية، الدور الهام للدفع المستجدّ للانشغال بعلم الاجتماع الديني. فعديد مظاهر الحوار القائمة اليوم، ناشئة أصلا عن جدل بين الدارسين المرتبطين بنظريات العلمنة وأولئك الذين يفسّرون السلوكات والتوجّهات الدينية بحسب رؤى مغايرة.
فلنظرية العلمنة تاريخ هام في العلوم الاجتماعية، بما لعبته من دور أساسي في تطوّر علم الاجتماع الديني. فهي تمثّل دافعا إيديولوجيا يضرب بجذوره حتى عصر الإستنارة الغربي، بما كان لها من صدى في بلورة الوعي الشائع لدى عديد ممثلي النخبة الغربية. ومما يتّفق عليه منظّرو العَلمنة عموما، أن مظاهر الإختلاف في المجتمع تشكّل الدعامة الأساسية للعلمنة. بيْد أن التنظيرات تختلف بشأن التفاعلات وبشأن مخلّفات بعض السياقات. فتشانان مثلا، في تحليله لسبع رؤى لمنظِّري العلمنة، استطاع أن يحدّد من خلالها تجلّي اثني عشر بعدا، نذكر منها: التمايز، والتعدّدية، والعقلنة، والعلمية واللاّإعتقاد. ويساند دوبيلار القول بوجود معيارين مختلفين للعلمنة، بأربعة مستويات متنوعة من التحليل. وقد أعاد الأنصار الجدد تشكيل نظريات العلمنة مولين اهتماما في ذلك للسلطة المغايرة للدين. التنوّع الثري لسياقات تأويل العلمنة، والذي يقابله نقصا في الفرضيات العملية العينية، قاد بعض المعلّقين المنتقدين، للتصريح أن بعض تلك السياقات لا تشكّل نظرية. ولذلك أيّا كان الإطار النظري، فإن عديد الدارسين ما فتئوا بصدد البحث في الظاهرة الدينية بحسب السياقات المعتادة للعلمنة، وأن النقاشات حولها -العلمنة- لا تزال حامية.

أنفاسنحن لا نريد إحياء الماضي بما هو ، فهو يدخل في تكويننا الفكري والثقافي الشعوري واللاشعوري، كخبرات وليس كواقع يمكن استعادته، إذ هو ماض له ما له وعليه ما عليه. فإذا جعلناه أمامنا فكأننا نضع العربة أمام الحصان، وهو سيسد طريقنا ويمنعنا من رؤية وقائع حياتنا المعاصرة المتجددة بحركة عاصفة تكاد تسبقنا ولا نستطيع الإمساك بحلقاتها الرئيسة إلا متأخرين. ولذلك فإن التواصل مع تاريخنا يجب أن يكون من خلال هذه الوقائع وليس العكس. فقدرتنا على التواصل مع الحداثة والثورات العلمية والتكنولوجية وهي في الجوهر العقلانية والعلمانية والديموقراطية، هي التي تجعل تاريخنا في تواصل مع حياتنا المعاصرة، ونحن نكافح لبناء وطن عربي حر قادر على المساهمة في صنع الحضارة الحديثة بدون التواءات وتكييفات خاصة. بالتواصل مع التحولات والتبدلات الاقتصادية والسياسية والثقافية العالمية، يتم التأكيد على الهوية القومية العربية، التي هي في هذه المرحلة المقاومة والصمود في وجه التحديات والمشاريع الإمبريالية التفكيكية والتجزيئية لتدمير هذه الهوية.‏
وهكذا حين لا يستطيع الواقع الراهن تقديم أجوبة عن أسئلة يطرحها الفكر الانساني فإننا نكون إذ ذاك أمام أحد احتمالين: إما أن الأسئلة التي طرحناها على الواقع أسئلة زائفة، والأسئلة الزائفة لا جواب واقعياً عنها، أو أن الواقع راكد إلى الحد الذي ليس باستطاعته أن يجيب.
اننا أمام مشكلة جد معقدة ألا وهي: كيف تأتى أن تكون بعض أسئلة الراهن أسئلة طُرحت قبل قرن ونيف من الزمان؟.
أجل: فسؤال التقدم التاريخي الذي طرحه النهضويون العرب ما زال سؤال المعاصرين من المفكرين العرب. وسؤال نحن والغرب الذي جهد الفكر النهضوي لفضّه، ما زال راهناً بل وحاضراً بصورة أكثر إلحاحاً. ناهيك عن أسئلة الدين والعلم والفلسفة واللاهوت، ونظام الحكم، والتجديد الديني. أتراها أسئلة يطرحها الوعي العربي انطلاقاً من رؤية العالم كما يجب أن يكون، أم هي أسئلة ناتجة عن وعي العالم كما هو أو بما ينطوي على إمكانيات تحتاج إلى إرادة مولدة للأجنة.
القول بأن الواقع راكد لم يتغير منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى هذه اللحظة المعيشة، قول يتناقض مع سيرورة التاريخ الفعلية. لكن ا لتغير لم يكن في اتجاه الإجابة الواقعية عن أسئلة الفكر العربي الحديث. أي أن أياً من أهداف عصر النهضة العربية لم يجد طريقه إلى التحقق .

أنفاستبلور النقاش حول أصل سكان المغرب ، بداية ، في حقل التاريخ. لكنه ، سرعان ما تدحرج إلى المجال السياسي ؛ ليتخذ تأويلات  إيديولوجية متباينة تشرعن وجودها بالاغتراف من تصورات تاريخية جاهزة . كيف ذلك ؟
1- مناقشة سؤال أصل سكان المغرب في مستواه التاريخي و الفكري :
من أين أتى “البربر” ؟ هل ” البربر” أقارب الأوربيين القدامى ؟ أم أنهم تدفقوا ، عبر موجات ، من الشرق ؟ لكن ، ماذا لو لم يأت هؤلاء من أي مكان ؟
إنها أسئلة ذات انشغال علمي ترتبط بالدراسات التاريخية . لكنها ، أيضا ، مطروحة في الساحة السياسية المغربية وتتجاذبها أطراف متعددة . والواقع أن الأسئلة المطروحة أعلاه تتفسخ عنها أسئلة فرعية ذات أهمية واضحة بالنسبة لموضوعنا . لكننا سنحجم عن إثارتها بالنظر للسقف الضيق لهامش هذا الموضوع.
وعموما ، يمكن ضبط التموقعات الإيديولوجية ، لهذا الموضوع ، في ثلاث اتجاهات أساسية :
*1 – الاتجاه العروبي- الشرقاني : اتجاه مغلق ومنكفئ في تعاطيه مع سؤال أصل سكان المغرب ؛ بحيث لا يرى ، هذا الاتجاه ، الهوية الإثنية للسكان المغاربة إلا في المشرق العربي : أي فرضية الأصل العربي للسكان ؛
* 2- الاتجاه الشوفيني الامازيغي :هذا الاتجاه يشترك مع الاتجاه الأول ، في كونه منغلق ومنكفئ ؛ لكنه لا يوجه نظره نحو الشرق في تحديده لأصل سكان المغرب ، بل يجتهد – بكل الوسائل – لدحض الفرضية الأولى ( الاتجاه العروبي) . و يرى أنه يمكن أن يكون أصل سكان المغرب من أي منطقة إلا المشرق العربي ؟ إنه تيار شوفيني ومتعصب ؛
* 3 – الاتجاه الديمقراطي التعددي : بين الاتجاهين السالفين، ينبلج اتجاه عقلاني ، تعددي و غير تصفوي مضمونه : أن معطى الهوية معطى متحرك وليس استاتيكي . وبالتالي ، فإن المغرب اكتسب هويته عبر فترات تاريخية طويلة . انصهرت ، خلالها ، ثقافات الشعوب الإفريقية والمتوسطية والعربية ….الخ. فضلا على أن هناك تحديات موضوعية ، كطاحونة العولمة ، الفقر ، إرهاب الشركات المتعددة الجنسية ، عسكرة الرأسمالية…الخ، تفترض ، وجوبا ، الوحدة ونبذ الصراعات الطائفية .