anfasse26040     لا تكمن جاذبية شوبنهاور بالنسبة للفيلسوف الفرنسي المعاصر كليمان روسي، في نزعة التشاؤم التي وسمت فلسفته؛ وإنما في الخلاص من تراجيديا الوجود وعبثيته المصاحبة لإرادة الحياة. خلاص يجد في البعد الإستيطيقي علاجا حقيقيا لمأساة الإنسان، إنه ليس علينا أن نجد متعة في آلام الحياة وأوجاعها، وإنما ينبغي علينا أن نتمسك بفرحة الحياة رغم الجوانب المأساوية للواقع والوجود بتعبير نيتشه؛ليس من الصدف السعيدة إذن، أن تشكل العلاقة شوبنهاور نيتشه مركز الثقل في اهتمامات كليمون روسي،إنها ليست بالعلاقة الواضحة كما يدعي البعض؛ بالنسبة لنيتشه  يتجه المرح دوما إلى أقصى الحدود مقارنة بالحزن عند شوبنهاور، إذ ظل تحليل الضغينة مغيبا عند هذا الأخير في الوقت الذي أخضعها نيتشه لمطرقة النقد الجينيالوجي.
     ليس الأهم في هذه العلاقة، حسب فيلسوفنا، نقط التقاطع؛ بل هي نقط التمايزات حيث التحرر من سلطة المربي تقتضي الاحتفاء بموته الرمزي. هكذا وتحت تأثير نيتشه سقط شوبنهاور في طي النسيان طيلة عقود فلم يعد أي داع للحديث عن تشاؤميته ،والإحتفاء بها. لكن اللقاء مع فلسفة سيوران شكل منعرجا حاسما أعيد فيه الاعتبار لشوبنهاور من خلال ثلاث مسائل أساس:
      أولها غلبة قوى الرغبة والغريزة على قوى اللوغوس ،ثانيها مأساوية الوجود وعبثيته،ثالثها الأفق الذي يفتحه الـتأمل الإستيطيقي لتخليص الإنسان من المعاناة المصاحبة لإرادة الحياة؛ فكل براهيننا وتفسيراتنا العقلية حول العالم وحول أنفسنا ليست سوى نتاج إرادة عمياء تنفلت منا كطاقة عمياء و هوجاء تسري في العالم. لكن كيف يمكن أن  تكون الإرادة سبب معاناتنا ، بينما الموسيقى كتعبير عن هذه الإرادة هي مصدر مرحنا ؟مفارقة أرقت كليمون روسي منذ ستينيات القرن المنصرم دون أن يجد لها جوابا شافيا ؛لذا لم يعتبر فلسفة شوبنهاور مجرد مسكن للألم؛بل هي أعمق من ذلك ،إنها فلسفة إستيطيقية تحمل من التميز والأصالة ما يبهر؛فكان لها بحق الأثر البالغ في التيارات الفنية للقرن العشرين.

anfasse11032   لم يكن يوجد شيء و لا أحد. و لا حتى الأشباح كانت توجد. لم يكن هناك أكثر من مجرد صخور صماء، و نعجة أو نعجتين تبحثان عن الكلإ بين الخراب.
   لكن هذا الشاعر الأعمى عرف كيف يرى، هنالك، تلك المدينة الكبيرة التي لم تكن توجد. رآها محاطة بالأسوار الضخمة، سامقة فوق التل مشرفة على الخليج؛ و سمع ولولات و زمجرات الحرب التي دمرتها.
   و أنشدها. كان ذاك إعادة تأسيس لطروادة. لقد ولدت طروادة من جديد. ولدت من كلمات هوميروس، بعد مرور أربعة قرون و نصف على إبادتها. و هكذا انتقلت حرب طروادة، التي كانت منذورة للنسيان، إلى أشهر حرب بين الحروب.
   يقول المؤرخون إنها كانت حربا تجارية. بحيث أغلق الطرواديون ممر العبور نحو البحر الأسود و أنهم كانوا يجنون ربحا كبيرا من ذلك. و أباد الإغريقيون طروادة كي يفتحوا لأنفسهم ممرا نحو الشرق عبر معبر الدردنيل. لكن كانت كل الحروب التي شهدها العالم تجارية أو تقريبا كلها كذلك. لماذا يمكن أن يحق لهذه الحرب التي تكاد تكون غير حقيقية أن تخلد في الذاكرة؟

anfasse04038ألبير كامي (Albert Camus) هو المؤلف الوحيد من الجزائر الفرنسية الذي يمكن، ببعض التبرير، أن يعتبر أن له مدى عالميا. ومثل جين أوستين (June Austen كاتب بريطاني، 1775-1817)[1]، قبل قرن من الزمان، فإنه روائي تركت مؤلفاته تفلت من يدها واقع الأشياء الإمبراطورية التي كانت تقدم ذاتها بكامل الوضوح إلى انتباهه(…).
يلعب كامي دورا هاما على نحو خاص في الرجات الاستعمارية المشؤومة التي صاحبت المخاض العسير لنهاية الاستعمار الفرنسي في القرن العشرين. إنها صورة إمبريالية متأخرة جدا: فلم يتخلف عن ذروة الإمبراطورية وحسب، وإنما بقي كمؤلف "عالمي" يغرز جذوره في استعمار تم نسيانه الآن (…).

إن المقارنة المدهشة بين كامي وجورج أورويل[2] هي أنهما صارا، كل واحد في ثقافته الخاصة، يمثلان صورتين نموذجيتين تنجم أهميتهما عن قوة السياق الأهلي المباشر الذي يظهران أنهما يتعاليان عليه. ولقد قيل هذا على أكمل وجه في حكم على كامي يبرز تقريبا عند نهاية عملية إزالة الزيف عن الشخص التي يمارسها كونور كريز أو بريان (Conor Cruise O'Brien) في كتاب يشبه كثيرا دراسة رايمون وليامز (Raymond Williams) عن أورويل[3]، يقول أوبريان: "من المحتمل ألا يكون أي مؤلف أوروبي من زمانه قد أثر بعمق، مثلما فعل، على المخيال والوعي الأخلاقي والسياسي لجيله وللجيل الذي تلاه. لقد كان أوروبيا بشكل كثيف لأنه كان ينتمي إلى حدود أوروبا وكان واعيا بتهديد ما. ولقد كان التهديد أيضا يرنو إليه بشغف. ولقد رفض، ولكن ليس دون صراع. ولم يعد أي كاتب آخر، حتى كونراد (Conrad) نفسه، يمثل الاهتمام والوعي الغربي إزاء العالم غير الغربي. ولعل المأساة الداخلية لآثاره هي تطور هذه العلاقة، تحت صعود الضغط والقلق".

anfasse04036(حوار مع مؤرخ الأفكار "زائيف ستارنهالZeev Sternhell ")
مجلة "هومانيسمHumanisme  "، 297، اكتوبر، 2012

المجلّة:
 السيد المحترم "زائيف ستارنهال"، يشرّفنا التحاور معكم حول مسألة معاداة التنوير، أي حول موضوع كنتم قد سخّرتم من أجله جهودا كبيرة. ولننطلق في ذلك من طرح سؤال بسيط: ماذا تعنون بتياّر معاداة التنوير؟ ثم إننا نريد أن نعرف بصفة خاصة ما إذا كان الأمر يتعلق  بحركةMouvement  أم بتيّارCourant، وهل يتعلق الأمر  بمجموع منسجم أم بأطروحات متنوعة؟ ثم من هم هؤلاء المفكرون الذين تستندون إليهم؟

"زائيف ستارنهال":

  في البداية أشكركم على هذه الاستضافة من أجل التعبير عن أفكاري في مجلة تبدو أهدافها واضحة تماما من خلال عنوانها [Humanisme]،  الأمر الذي يمثل في حد ذاته برنامجا قائما. يُمثل أعداء التنوير تيّارا، وقد استخدمت كلمة تقليدTradition  أيضا بهدف التأكيد على جانب الاستمرارية في الزمن.  علينا بهذا المعنى أن نؤكد على حقيقة أن أعداء التنوير  تماما مثلما هم في الجانب الآخر أنصار التنوير لا يشكلون دائما مدوّنة أفكار منسجمة، بل يتعلق الأمر بتقليدين فكريين يرميان إلى تحقيق أهداف عملية مباشرة[1]. فالتنوع [الداخلي] والتناقضات الداخلية يمثلان إحدى الخصائص المميّزة لهذين التقليدين. وبالتالي فإنّ إنكار هذا التنوع سيمثّل خطأ [منهجيا] فادحا. فرغم هذا اللاّ-تجانس Hétérogénéité ، يوجد قاسم مشترك بين كل صور وتفريعات معاداة التنوير وكذلك بين كل صور وتفريعات التنوير. ذلك هو السبب الذي يفسر أنه رغم كل ما يفصل "فولتير"Voltaire عن "رسّو"Rousseau  و"رسّو" عن "كوندورسيه"Condorcet ، أو "منتسكيو"Montesquieu  عن "ديدرو"Diderot  والموسوعيين، فإن مفكري الأنوار الفرنسية، ومعهم حليفهم الرئيسي "كانط"E. Kant ، يتّحدون فيما بينهم عبر جملة من المبادئ تشكل لبّ الثورة الفكرية الكبيرة للقرن الثامن عشر. ودون أن نخشى طمس الحقيقة المتشعّبة لتلك الفترة الممتدة من بداية القرن الثامن عشر إلى أيّامنا هذه، فإنه من المشروع الإقرار إنه يوجد انسجام ومنطق داخلي في تقليد الأنوار وإن الانسجام نفسه يؤسس نزعة معاداة التنوير. سنتكلم عن المفكرين من معادي التنوير بعد حين، ولكننا نريد الإلحاح قبل ذلك على ضرورة عدم الخلط بين الانسجامCohérence  وأحادية البعدUnidimensionnalité .

anfasse02032عذبة هي الأنغام التي نصغي إليها،غير أن التي لا نسمعها تفوقها عذوبة :أيضا، نصب مصائد للعصافير،أنشد دائما، ليس للأذن المرهفة الحس، لكن الأكثر إغواء،أن ترنِّم للفكر تراتيل صامتة.
(Keats ,Ode a l urne grecque.trad ;E. de Clermont-Tonnerre)
 
هناك موسيقيون يؤلفون على الصفحة البيضاء،في ظل السكون والصمت. الأعين الكبيرة مفتوحة، تخلق بنظرة ممتدة في الفراغ، نوعا من الصمت المرئي، نظرة صامتة تمسح العالم،لكي تعمل على إسكات أصواته، إنهم يكتبون الموسيقى. شفاههم لا تتحرك. إيقاع الدم ذاته قد جف طبله، الحياة تترقب، فالإيقاع آت. يصغون إذن إلى ما يبدعونه عبر الفعل الذي يبدع.لاينتمون أبدا إلى عالم الأصداء أو الرنين، يسمعون النقط السوداء،ثم العلامات الموسيقية،والنوتات، تسقط، ترتجف، تنزلق، تقفز على صفحة الموسيقى. بالنسبة لهم، السولفيج قيثارة مجردة، رنان قبل ذلك. يتمتعون هنا،على الصفحة البيضاء،بتعدد الأصوات الواعي. في الإصغاء الواقعي، يمكن أن تضيع أصوات، تخفت،وتختنق،قد يحدث الانصهار بكيفية سيئة.لكن مبدع الموسيقى المكتوبة، له عشرة آذان ويد واحدة. يد مطبقة على قلم، لضم عالم الإيقاع ، عشرة آذان، وانتباهات، ومواقيت، قصد مطِّ و تنظيم فيض السمفونيات.

jamal-khayriلا يُترجِم إلا مَا يقدِّم له جَرعَةً كافيَةً منَ المُتعَة. ولا ينظر إلى النَّص الأدَبي بوَصفهِ لغةً بمُسْتوياتها التركيبيَّة والنَّحوية والصَّوتية وحَسب، بل باعتبارهِ نصّاً بمَحمول اجتمَاعي وتاريخِي وَجغرافي...إلخ، أي باعتبَارهِ بنيَة ثقافيةً شامِلة؛ وهو مَا يُوجب على أيِّ مُترجم الإلمَام بالسِّياق الثقافِي للغتيْن اللتين يتحرَّك بينهُما.
يَخلصُ الشاعرُ والمُترجم جَمال خيري، في هَذا المُقتطف مِن الحِوارِ الطّويل الذِي أجريتُه (وأجريهِ) معه، إلى أنَّ الترجَمة إعادَة كتابَة تمنحُ النصَّ أفقاً جديداً. كمَا يَتفاعل معَ أسْئِلة همَّت تحوُّلاتِ النَّص وَهوَ يعبُر منْ لغةٍ إلى أخرَى، مثلمَا همَّت مَوضُوعَ ارْتباطِ "الخِيانة" و"الوَفاء" بالتَّرجَمة وتفاصِيل أخرَى ضِمنهَا ترْجَمتُه لثلاثَةٍ منْ دَواوِين الشَّاعر عَبد اللطِيف الَّلعبِي...

حوار: زهير فخري (بيرغن)

س:
 يبدو أنك صرت في السنوات الأخيرة مأخوذا، أكثر من أي وقت مضى، بترجمة الأدب الفرنسي. ونصوصك المترجمة التي تسنى لي أن أتابعها في عدد من المواقع، كانت على درجة عالية من العمق... أحب أن أسألك: على أي أساس تنتقي نصوصك، ثم ما هي درجة الوعي لديك بحاجة القارئ العربي إلى ما تقدمه له من ترجمات؟

anfasse20012في عشية يوليوز تلك، عندما كانت الشمسُ الدافئةُ تسخن فصل الربيع الباردَ، خرجتَ إلى الوجود أنت. كنت صغيرا جدا و صورةً طبق الأصل عني. لا أدري إن كان يحدث مع باقي الآباء نفس الشيء فيما يتعلق بإحساسهم تجاه فلذات أكبادهم. لكن برؤيتك، اهتززت من الفرح و شدة التأثر و الدموع. في نفس ذلك اليوم وضعتُك بين ذراعيَّ. لقد تدرجتَ في النمو دون أن أنتبهَ إلى ذلك الأمر. عندما وصلتَ إلى مرحلة الحضانة، كان علي أن أحمِلك باكرا كل صباح إلى هنالك و بعدها أذهب إلى العمل. لكن كنت آخذك في المساء قبل أن يحين الموعد كي أبقى معك وقتا أطولَ. كنتُ أستبدل حفاظتك و أعد لك رضاعتك و أسهر على استحمامك يوميا لأنه كان يُرضينِي فعلُ ذلك. و كي أخفف من بكائك ليلا كنت أضعك في صدري. إذ كان ذاك الحل المناسب لمشكلتك. و لتهدئتك أو لكي تنام عندما أكون غائبا، كنتَ تأخذ قميصًا لي إذ كنتَ تجد فيه بلسمًا لك. هي عادةٌ داومتَ عليها في مرحلة الدراسة.
   حسبما أتذكرُ، فإنه عندما كان عمرُك ثلاث سنوات ذهبتُ بلباس بطل أسطوري إلى حفلة تنكرية نظمتها دار الحضانة بينما كنتَ أنتَ تتنكر في لباس الرجل العنكبوت. أتذكر أني نزعتُ ساعتي اليدوية كي لا تتعرفَ إلي لكن بفضل حذاقتك اكتشفتَ أمري من خلال حذائي.
   عندما كنتُ أذهب للبحث عنك في حديقة (كيندر) كنت أُعايِن شهامتَك من خلال مُساعدتك لرفيقاتك الصغيرات بحقائبهن أو معَاطِفِهنَّ. لقد كان أمرا مثيرا للإعجاب مقارنة بعمرك، بل حتى معلماتِك خلبتَ عقولهُن. عندما كنت أعلم أختك جدول الضرب و بينما أنت تلعب بأشيائك، كنتَ تجيبني مكانها. و هكذا في سن الخامسة كنتَ قد أنهيتَ حفظه.

anfasse11013   لقد سبق أن كتب غوسطاف سبيلر بأن الأحلام تندرج في المستوى السفلي من نشاطنا الذهني. لا أُشاطِر هذا التصور الذي يبدو لي أنه يميل إلى الحط من الفن. لعل كل الفنون شكل من أشكال الحلم. هل حلمت بحياتي أم كانت حقيقة؟ بروعة يتساءل الشاعر النمساوي  ولتر فون دير فيجيلوايد. و تجمع بين الأدب الإنجليزي و الأحلام علاقة عريقة. يشير الراهب بيدا المبجل إلى أن كايدمون شاعر إنجلترا الأول قد نظم أول قصيدة له و هو يحلم. و يعترف ستيفنسون بأنه حلم بتحول جيكييل إلى هايد و بالمشهد المركزي في قصته "أُولَالَا". كما أن حلما ثلاثيا مبنيا على الكلمات  و الهندسة و الموسيقى قد أملى على كولريدج المقطوعة الرائعة "كوبلا خان". إن حالات الحلم كموضوع في الأدب أكثر من أن تُعد أو تُحصى. لكن و مما لا شك فيه أن أشهرها متضمن في الكتب التي خلف لنا لويس كارول. أليسيا تحلم بالملك الأحمر، و الذي يحلم بها بينما يحذرها أحدهم بأنه إن حدث و استيقظ الملك فإنها ستنطفئ مثلما تنطفئ الشمعة، لأن الأمر لا يعدو كونه حلما لدى الملك و الذي تحلم به هي الأخرى. إن حلمي أليسيا يكادان يندرجان في دائرة الكابوس. إن تفسيرات تينييل  التي باتت الآن مفتاحا لهذا العمل و التي لم تكن تروق لكارول، ما فتئت تشدد على التهديد الموحى به. منذ الوهلة الأولى، تبدو مغامرات أليسيا غير مسؤولة بل و اعتباطية تقريبا؛ غير أنه فيما بعد نتبين أنها تنطوي على مكر دقة لعبة الشطرنج و لعبة الورق، و لهذا فهي مغامرات من وحي الخيال. إن كارول، كما هو معلوم، كان أستاذا للرياضيات في جامعة أوكسفورد، و المفارقات ذات الطبيعة المنطقية الرياضية التي يقترحها علينا هذا العمل الإبداعي لا تمنع من أن يكون هذا الأخير سحرا بالنسبة للأطفال.