لا يُترجِم إلا مَا يقدِّم له جَرعَةً كافيَةً منَ المُتعَة. ولا ينظر إلى النَّص الأدَبي بوَصفهِ لغةً بمُسْتوياتها التركيبيَّة والنَّحوية والصَّوتية وحَسب، بل باعتبارهِ نصّاً بمَحمول اجتمَاعي وتاريخِي وَجغرافي...إلخ، أي باعتبَارهِ بنيَة ثقافيةً شامِلة؛ وهو مَا يُوجب على أيِّ مُترجم الإلمَام بالسِّياق الثقافِي للغتيْن اللتين يتحرَّك بينهُما.
يَخلصُ الشاعرُ والمُترجم جَمال خيري، في هَذا المُقتطف مِن الحِوارِ الطّويل الذِي أجريتُه (وأجريهِ) معه، إلى أنَّ الترجَمة إعادَة كتابَة تمنحُ النصَّ أفقاً جديداً. كمَا يَتفاعل معَ أسْئِلة همَّت تحوُّلاتِ النَّص وَهوَ يعبُر منْ لغةٍ إلى أخرَى، مثلمَا همَّت مَوضُوعَ ارْتباطِ "الخِيانة" و"الوَفاء" بالتَّرجَمة وتفاصِيل أخرَى ضِمنهَا ترْجَمتُه لثلاثَةٍ منْ دَواوِين الشَّاعر عَبد اللطِيف الَّلعبِي...
حوار: زهير فخري (بيرغن)
س:
يبدو أنك صرت في السنوات الأخيرة مأخوذا، أكثر من أي وقت مضى، بترجمة الأدب الفرنسي. ونصوصك المترجمة التي تسنى لي أن أتابعها في عدد من المواقع، كانت على درجة عالية من العمق... أحب أن أسألك: على أي أساس تنتقي نصوصك، ثم ما هي درجة الوعي لديك بحاجة القارئ العربي إلى ما تقدمه له من ترجمات؟
رِسَالَةٌ إِلَى بْرِيَّانْ ـ كَارْلُوسْ كَارَّاسْكُو ـ ترجمة: الدكتور لحسن الكيري
في عشية يوليوز تلك، عندما كانت الشمسُ الدافئةُ تسخن فصل الربيع الباردَ، خرجتَ إلى الوجود أنت. كنت صغيرا جدا و صورةً طبق الأصل عني. لا أدري إن كان يحدث مع باقي الآباء نفس الشيء فيما يتعلق بإحساسهم تجاه فلذات أكبادهم. لكن برؤيتك، اهتززت من الفرح و شدة التأثر و الدموع. في نفس ذلك اليوم وضعتُك بين ذراعيَّ. لقد تدرجتَ في النمو دون أن أنتبهَ إلى ذلك الأمر. عندما وصلتَ إلى مرحلة الحضانة، كان علي أن أحمِلك باكرا كل صباح إلى هنالك و بعدها أذهب إلى العمل. لكن كنت آخذك في المساء قبل أن يحين الموعد كي أبقى معك وقتا أطولَ. كنتُ أستبدل حفاظتك و أعد لك رضاعتك و أسهر على استحمامك يوميا لأنه كان يُرضينِي فعلُ ذلك. و كي أخفف من بكائك ليلا كنت أضعك في صدري. إذ كان ذاك الحل المناسب لمشكلتك. و لتهدئتك أو لكي تنام عندما أكون غائبا، كنتَ تأخذ قميصًا لي إذ كنتَ تجد فيه بلسمًا لك. هي عادةٌ داومتَ عليها في مرحلة الدراسة.
حسبما أتذكرُ، فإنه عندما كان عمرُك ثلاث سنوات ذهبتُ بلباس بطل أسطوري إلى حفلة تنكرية نظمتها دار الحضانة بينما كنتَ أنتَ تتنكر في لباس الرجل العنكبوت. أتذكر أني نزعتُ ساعتي اليدوية كي لا تتعرفَ إلي لكن بفضل حذاقتك اكتشفتَ أمري من خلال حذائي.
عندما كنتُ أذهب للبحث عنك في حديقة (كيندر) كنت أُعايِن شهامتَك من خلال مُساعدتك لرفيقاتك الصغيرات بحقائبهن أو معَاطِفِهنَّ. لقد كان أمرا مثيرا للإعجاب مقارنة بعمرك، بل حتى معلماتِك خلبتَ عقولهُن. عندما كنت أعلم أختك جدول الضرب و بينما أنت تلعب بأشيائك، كنتَ تجيبني مكانها. و هكذا في سن الخامسة كنتَ قد أنهيتَ حفظه.
حُلْمُ لْوِيسْ كَارُولْ ـ خُورْخِي لْوِيسْ بُورْخِيسْ ـ ترجمة : د. لحسن الكيري
لقد سبق أن كتب غوسطاف سبيلر بأن الأحلام تندرج في المستوى السفلي من نشاطنا الذهني. لا أُشاطِر هذا التصور الذي يبدو لي أنه يميل إلى الحط من الفن. لعل كل الفنون شكل من أشكال الحلم. هل حلمت بحياتي أم كانت حقيقة؟ بروعة يتساءل الشاعر النمساوي ولتر فون دير فيجيلوايد. و تجمع بين الأدب الإنجليزي و الأحلام علاقة عريقة. يشير الراهب بيدا المبجل إلى أن كايدمون شاعر إنجلترا الأول قد نظم أول قصيدة له و هو يحلم. و يعترف ستيفنسون بأنه حلم بتحول جيكييل إلى هايد و بالمشهد المركزي في قصته "أُولَالَا". كما أن حلما ثلاثيا مبنيا على الكلمات و الهندسة و الموسيقى قد أملى على كولريدج المقطوعة الرائعة "كوبلا خان". إن حالات الحلم كموضوع في الأدب أكثر من أن تُعد أو تُحصى. لكن و مما لا شك فيه أن أشهرها متضمن في الكتب التي خلف لنا لويس كارول. أليسيا تحلم بالملك الأحمر، و الذي يحلم بها بينما يحذرها أحدهم بأنه إن حدث و استيقظ الملك فإنها ستنطفئ مثلما تنطفئ الشمعة، لأن الأمر لا يعدو كونه حلما لدى الملك و الذي تحلم به هي الأخرى. إن حلمي أليسيا يكادان يندرجان في دائرة الكابوس. إن تفسيرات تينييل التي باتت الآن مفتاحا لهذا العمل و التي لم تكن تروق لكارول، ما فتئت تشدد على التهديد الموحى به. منذ الوهلة الأولى، تبدو مغامرات أليسيا غير مسؤولة بل و اعتباطية تقريبا؛ غير أنه فيما بعد نتبين أنها تنطوي على مكر دقة لعبة الشطرنج و لعبة الورق، و لهذا فهي مغامرات من وحي الخيال. إن كارول، كما هو معلوم، كان أستاذا للرياضيات في جامعة أوكسفورد، و المفارقات ذات الطبيعة المنطقية الرياضية التي يقترحها علينا هذا العمل الإبداعي لا تمنع من أن يكون هذا الأخير سحرا بالنسبة للأطفال.
لاهوت التحرير والوثنيات الجديدة ـ نص : ميكائيل لوفي ـ ترجمة: عزالدين عناية
الجزء الأول :
ما المراد بلاهوت التحرير؟ بالأساس هو خطّ ديني مسيحي يستلهم رؤاه من جملة من الكتابات ذات منحى لاهوتي نضالي، تم تأليفها منذ العام 1971 من قِبل مجموعة من رجال الدين المسيحيين، على غرار غوستافو غوتيراز من البيرو، وروبيم آلفز وهوغو آسمان وكارلوس ميستر والأخوين ليوناردو وكلودوفيس بوف من البرازيل، وجون سوبرينو وإغناسيو إيلاكوريا من السلفادور، وسغوندو غاليليا ورونالدو مونز من الشيلي، وبابلو ريتشارد من كوستاريكا، وجوزي ميغيل بونينو وخوان كارلوس سكانوني من الأرجنتين، وإنريك دوسيل من المكسيك، وخوان لويس سغوندو من الأوروغواي، لِنورد أسماء العناصر الأكثر شهرة من بين رموز هذا التوجه.
ذلك ليس مصادفة أن تظهر هذه الحركة في أمريكا اللاتينية، في جنوب القارة التي تفشّى فيها التباين الاجتماعي بشكل صارخ، وأين توالت، منذ تفجر الثورة الكوبية سنة 1959، نضالات اجتماعية تطلعت إلى إرساء العدالة، دعمتها حركات ثورية بشكل متلاحق.
ولئن برزت اختلافات جمّة بين آراء مجمل هؤلاء اللاهوتيين، فإننا نجد، في سائر أعمالهم، العديد من المحاور الرئيسية التي شكلت أرضية مشتركة ومنطلقا جذريا نابعا من المعتقد التقليدي، كما أرسته الكنائس المسيحية، سواء منها الكاثوليكية أو البروتستانتية:
النشاط المعجمي بين العربية والإيطالية (ج3) ـ عزالدين عناية
رابعا: أوضاع الترجمة بين اللغتين
على مدى تاريخ التواصل الثقافي بين العرب والإيطاليين، لم تتجاوز أعمال الترجمة بين العربية والإيطالية 660 عملا. وتكاد أعداد الأعمال المنجزة تتوزع بالتساوي بين اللسانين، 336 عملا من الجانب العربي و324 عملا من الجانب الإيطالي. ويمكن الرجوع بأولى أعمال الترجمة إلى العربية إلى النصف الأول من القرن التاسع عشر، في مصر وتونس، مع تلمس البلدين سبل اللحاق بركب التمدن. حيث نسجل ظهور أول قاموس إيطالي عربي في مصر خلال العام 1822، من إعداد القس السوري أنطون زخور رافائيل (1759-1831). وقد تم طبع القاموس في بولاق بتشجيع من محمد علي[1]، تلته ترجمة من قبل أنطون زخور أيضا لكتاب "الأمير" لماكيافيلّي، صدرت تحت عنوان "الأمير في علم التاريخ والسياسة والتدبير"[2].
وخلال الفترة نفسها شهدت الترجمة من الإيطالية في تونس شيئا من الاهتمام ضمن غرض محدد. حصل ذلك مع تأسيس مدرسة باردو الحربية (1840)، ثم في مرحلة لاحقة مع إنشاء المدرسة الصادقية (1875). حيث كان الحرص بالأساس على تعريب المصنّفات العسكرية والعلمية. بقيت منجزات المدرستين (في حدود أربعين عملا) مخطوطة في المكتبة الوطنية في تونس. ومن الطريف أن عمل الترجمة، في مدرسة باردو الحربية، كان يتولاه ثلاثة أطراف. يجري نقل المصنف بإشراف المدرس الإيطالي حينها، رفقة الضباط أو الطلاب التونسيين، ليتكفّل بالنص في مرحلة أخيرة شيخ زيتوني يقوّم عجمة اللسان وركاكة العبارة.
النشاط المعجمي بين العربية والإيطالية (ج2) ـ عزالدين عناية
أ- القواميس الإيطالية العربية
- القاموس الإيطالي العربي (لخليفة محمد التليسي)
يحوي قاموس الليبي التليسي[i] حوالي 35 ألف مفردة. وعلى ما يورد صاحبه في المقدمة، أن القاموس قد أُلّف لحاجة شخصية، بعد تجربة طويلة مع ترجمة النصوص الإيطالية. فقد حمل هذا العمل رغبة كامنة في نفس صاحبه، منذ أن نشأت لديه صلة بهذه اللغة الجميلة التي أحبها وأحب ثقافتها. يحاول القاموس أن يغطي كافة فروع المعرفة واتجاهاتها، ويتضح ذلك من:
- العناية بالمصطلحات، والكلمات المعبرة عن الاتجاهات السياسية والفلسفية والأدبية والفنية المعاصرة.
- مراعاة الاستعمال الحديث للكلمات، والتطور الذي لحقها في الحياة الحديثة.
كما يقدّر صاحبه أن عمله يتجاوز علميا كافة القواميس الإيطالية العربية التي سبقته، بما سعى إليه في سد الحاجات المتعددة للدارس والباحث المعاصر. وقد استفاد التليسي من جملة من القواميس، بالأساس قاموس النهضة لإسماعيل مظهر، وقاموس المورد للبعلبكي، وقاموس المنهل لسهيل إدريس وجبور عبدالنور، لا سيما في مجال المصطلحات العلمية. لكن على دقة التليسي في البحث عن المرادف العربي للمفردة الإيطالية، أو في نحت نظير لها، يبقى المترجِم المستعين بهذا القاموس في حاجة إلى مراجعة قاموس إيطالي إيطالي، لا سيما في ما يتعلق بمصطلحات العلوم الإنسانية والاجتماعية حديثة المنشأ التي يفتقر إليها القاموس.
النشاط المعجمي بين العربية والإيطالية (ج1) ـ عزالدين عناية
ضمن السياق الثقافي العربي الإيطالي، يلوح جليا مدى ارتهان تطور الحركة المعجمية بين العربية والإيطالية إلى أوضاع الدراسات بين اللغتين والثقافتين. ففي مستوى الدرس الأكاديمي والبحث العلمي، تبدو انشغالات الجانب العربي دون مستوى نظيره الإيطالي، من حيث الشمول والراهنية والعمق. حيث تتركز جلّ اهتمامات أقسام الدراسات الإيطالية في الجامعات العربية على المدخلين اللغوي والأدبي، اللذين غلبا على ما سواهما، وبُخست جوانب أخرى مهمة. ما أضفى على الدراسات الإيطالية -Italianistica- طابع العزلة وعدم المواكبة. ولم ينفتح الدرس الجامعي على مجالات رحبة، تلبي حاجات معرفية وعملية يتطلبها الواقع الثقافي.
هذا الانحصار الذي ميز أقسام الدراسات الإيطالية في الفضاء الجامعي العربي، قابله انفتاح أقسام الدراسات العربية والإسلامية في إيطاليا، سواء كان في مجال ما يسمّى بالاستعراب -Arabistica-، أو في مجال الإسلاميات -Islamistica-، على قضايا تسائل محيطها الاجتماعي، شملت الهجرة والاندماج، والإسلام في الغرب، والتعددية الثقافية؛ أو ضمن آفاق أرحب، امتدت إلى حقول السياسة والاجتماع والتاريخ والآثار والإسلاميات وغيرها[i].
فقد ألقت أوضاع الدراسات بين الجانبين بظلالها على الحركة المعجمية بين اللغتين. ولم نشهد بين الدارسين العرب للغة والآداب الإيطالية، ولا لدى نظرائهم في الاستعراب والإسلاميات في إيطاليا نزوعا نحو غور اللغتين، بقصد تطوير قواميس تلبي حاجات تخصصات معرفية، وبقي الأمر مقتصرا على القواميس المفرداتية لا غير. وحتى الشق الكاثوليكي من الكنيسة العربية، الذي يُفترض أن تربطه علاقة وطيدة باللغة الإيطالية، من خلال البعثات والدراسة والأبحاث في الجامعات الحبرية التابعة إلى حاضرة الفاتيكان، لم يخلف ذلك التواصل شغفا لديه لتطوير قواميس عربية إيطالية تمليها الحاجة.
في أن العدمية كلمة من الأضداد: كلمة تشير لكل شيء لتعبر عن... لاشيء ـ فرانسوا إوالد ـ ترجمة : م.ادريس بنشريف
لن تجد كلمة دلت على معاني بلغت من التضارب حد التناقض، مثل كلمة العدمية في مجرى استخداماتها من طرف توجهات فكرية مختلفة المشارب أدبا وفلسفة وفنا، حتى إن الناظر في النزعات التي توسلت بالمصطلح من إلحادية وأنا واحدية وريبية ومادية وتشاؤمية. يقف على تلبس دلالاتها لبوسات تختلف باختلاف التيارات والمذاهب؛ فكانت بحق تعبيرا عن توجه ينطوي على قيم مبتدعة ساهمت في تعرية وكشف السمات الثقافية لأزمة الحضارة الغربية أيما إسهام.
لقد تنقل هذا المصطلح من فضاء ثقافي إلى آخر ومن قطاع معرفي نحو آخر، حتى صار كل واحد ينسب لنفسه السبق في استخدامه. فهذا صاحب رواية الآباء والأبناء تورغينيف يدعي فضل اجتراحه في الوقت الذي توسل به آخرون قبله كالقديس أوغسطين وعلماء اللاهوت الألمان في القرن الثامن عشر. ولو استقصيت الجذر اللغوي اللاتيني لكلمة العدم nihil ما جنيت كبير فائدة، للإحاطة بصلب الموضوع، أي تحديد ماهية النزعة العدمية . الشيء الذي يفرض وضع المفهوم في سياقات تشكله المعرفية والتاريخية المتعددة الروافد والمتشعبة الدلالات. فهلا وُفقت رحلة الدال في استنفاذ معاني مدلوله المتباينة اللبوسات والتلاوين ؟