" مشكل الكلام في مواجهة العنف ليس مشكل بنية ، إنما مشكل معنى"1[1]
كيف تدرك العلاقة بين العنف والكلام وبين القوة والحق وبين الحرب والسلم وبين التنازع والتكاتف ؟ هل يبدو التعارض واضحا والاختيار بينهما من الأمور السهلة ؟ وكيف يتخيل المرء إمكانية الاختيار بين وضعيتين قصوويتين تتميزان برفضهما للتواصل بين الذوات والمجموعات بروز التوتر والتباعد في وجهات النظر والتصورات الكبرى للعالم ؟ وبماذا يضع الإنسان معايير قابلة للتطبيق للتفرقة بينهما؟
الجواب عند بول ريكور على هذه الأسئلة صعب ويقتضي المرور بطريق طويل من التدقيق والتقصي وزيارة الكثير من المرجعيات المتنوعة والتجارب المتعددة والتحلي بالحذر الفلسفي والنقد المنهجي. إذ تبدو اللغة بوصفها المسرح الذي يتجلي من خلاله العنف ويأتي إلى العالم ويتعلق بالشأن الإنساني من جهة أولى ولكن الكائن البشري بوصفه كائن الكلام والتفكير والاجتماع هو الوحيد الباحث عن معنى حياته والمتفهم لوضعيات وجوده وهو المبدع الوحيد لاستراتيجيات التنظيم وإعادة البناء وتسخير أشياء الكون لتحقيق مصالحه المادية والمعنوية والساعي إلى الحياة الجيدة والوجود الأصيل ولذلك يضع حدا للعنف من ناحية أخرى عن طريف أفعال الكلام ولغة الحوار وجدلية السؤال والجواب وصنع تاريخه المشرق. ما يسترعي الانتباه هو الإقرار الريكوري التالية: "لا مشروع ثوري بلا وعي وبلا امتلاك الوعي، إذن بلا تمفصل للمعنى". فهل تتوقف عملية انجاح المشروع الثوري على تقاطع فعل التكلم في السياسة والشعر والفلسفة؟ ألا يمنح العنف اللاّمعنى للكلام الثوري؟
جيل دولوز: "الفلاسفة الجدد" ـ ترجمة: عبدالعالي نجاح
* ما رأيك في "الفلاسفة الجدد"؟ (*)
جيل دولوز: لا شيء. أظن أن تفكيرهم بدون قيمة. أرى سببان ممكنان لهذه الرداءة. بداية، إنهم يفكرون بواسطة مفاهيم كبرى، مثل أسنان مسوسة، القانون والسلطة والمعلم والعالم والتمرد والإيمان، الخ. ويمكنهم القيام بالتالي بمزيج فضيع، ثنائيات مختزلة، القانون والتمرد، السلطة والملاك. وفي نفس الآن، بقدر ما أن محتوى التفكير يكون ضعيفا، فإن المفكر يثير الاهتمام، وأن موضوع الطرح يأخذ أهمية في علاقة مع طروحات فارغة ("أنا، بصفتي متنور وشجاع، أقول لكم...؛ أنا بصفتي جندي المسيح...؛ أنا، من الجيل الضائع...؛ نحن، بصفتنا قد قمنا بأحداث ماي 68...). إنهم يكسرون العمل بهاتين الطريقتين في التفكير. لأنه منذ زمن مضى، وفي كل المجالات المختلفة، يشتغل الناس قصد تفادي هذه المخاطر. نحاول تشكيل مفاهيم بتمفصل جد دقيق، أو جد مميز، قصد عدم السقوط في الخاصيات الثنائية الكبرى. ونحاول استخراج وظائف إبداعية التي لا تمر قط بالوظيفة/كاتب (في الموسيقى وفي الصباغة وفي السمعي البصري وفي السينما وحتى في الفلسفة). تمثل هذه العودة المطردة إلى كاتب ما أو إلى موضوع فارغ وبدون معنى، وإلى مفاهيم نمطية مختزلة، قوة تفاعل مقلق. يطابق ذلك إصلاح آبي(1): تقليص خطير ل'برنامج" الفلسفة.
ألبرتو موراڤيا، فن الأدب القصصي، المقابلة السادسة ـ حاوره : آنّا ماريّا دي دومونيشس وَبن جونسون ـ ترجمة: ريوف خالد
يقع شارع ڤياديلوكّا بالقرب من ميدان ﭙيازا ديل ﭙوﭙلو، الشارع المُشكّل بغرابة يتسع عند منتصفه وينتهي نهايتين متدرّجتين رفيعتين، في ممره القصير المرصوف الممتد من سد لونغوتيڤيريه إلى جانب من كنيسة سانتا ماريّا دي ميراكولي. أخذ شارع الإوزة "ڤياديلوكّا" اسمه، مثل شوارع عديدة في روما، من لافتة مطعم منسي منذ زمن.على جهة ممتدة دون انقطاع، من ضفة نهر تايبر إلى شارع ڤياريـﭙتّا، تنتشر بيوت الطبقة العاملة؛ طابور من المداخل الضيّقة بسلالمٍ رطبةٍ مظلمةٍ صغيرةٍ، نوافذ محشورة، خيطٌ من المتاجر الصغيرة، روائح فواكه محلّاة، متاجر ترميم، كحول كاستيلّي، عوادم المحركات، بكاء صبية الشارع، أزيز تجريب درّاجات غوزّيه الناريّة، ومواء من الساحة.
في الجهة المقابلة؛ المباني أطول، تخرج بعشوائية عن النطاق، يُشكّلها التعجرف الخالص للأفاريز المتّصلة والشُرفات الطافحة بمتسلّقات مؤصّصة، نباتات زاحفة مُعتنى بها؛ هذه منازل الأثرياء. هنا، في هذه الجهة، يعيش ألبرتو موراڤيا، في البناء العصري الوحيد في الحي. البناء الناتئ مثل سدّ بلون اليشب والعاج بالنسبة للمحيط الأحمر الذهبي.
يُفتح الباب من قِبل العاملة المنزليّة، فتاة سمراء ترتدي الثوب الأسود التقليدي والمريلة البيضاء. في المدخل، خلفها، يظهر موراڤيا متحقّقًا من وصول صندوق نبيذ، يستدير. ليذهب المحاور إلى غرفة الجلوس، حيث سيكون موراڤيا هنا حالًا.
أن تقتل طفلاً ـ قصة : ستيغ داغِرمان (Stig Dagerman) ـ ترجمة : فهد الملقي
إنه يوم هادئ والشمس مائلة فوق السهل. قريباً ستُقرَع الأجراس؛ إنه يوم الأحد. بين حقلين من حقول الجاودار وجد يافعان درباً لم يسيرا فيه من قبل، وفي ضيعات السهل الثلاث يلمع زجاج النوافذ. رجالٌ يحْلقون ذقونهم أمام المرايا على طاولات المطابخ، ونساءٌ يدندنّ وهن يقطّعن الخبز الذي سيؤكل مع القهوة، وأطفال يجلسون على الأرض ويزرّرون قمصانهم. إنه صباح سعيد ليوم تعيس؛ فاليوم سيُقتل طفل في الضيعة الثالثة على يد رجل سعيد. لا يزال الطفل جالساً على الأرض ويزرّر قميصه، والرجل الذي يحلق ذقنه يقول إنه سيصحبهم اليوم بجولة في مركب ذي مجاذيف على طول النهر، والمرأة تدندن وتضع الخبز المقطّع في صحن أزرق.
ميشيل فوكو: المفهوم العلمي لـ"الحقيقة" وعدم الفهم الفلسفي لـ"العلم"(1) ـ ترجمة: عبد العالي نجاح
في الحقيقة، في العلوم، وفي المعنى المضاد للفلسفة حول موضوعها.
نجد في العلوم استعمالين متكررين للحقيقة، والذي يجب توضيحه. يخول الأول تجاوزا إقرار الاستعمال “الجيد” أو “الفاسد” للعلوم. القول عن برهان بأنه “خاطئ”، لا يعني القول بأن ضده “صائب”: يحيل “الخطأ” إذا على الغلط. يعني “الخطأ” الذي يكتبه أستاذ الرياضيات على هامش الورقة “أن الذي أقرؤه هنا ليس له معنى رياضي”. كما يمكن القول عن عبارة بأنها خاطئة نحوياً: إنها سيئة البناء بالنظر للمنهج المسبق الذي حددته.
يستعمل الثاني لتقييم فرضية منطقية: نقول عن فرضية بأنها صائبة، كما نقول عن أخرى أنها خاطئة. الصواب والخطأ قيمتان ممكنتان ومتبادلتان لفرضية ما. مثلا، أحدد بأن العبارة “(أ) و(ب) خطان متوازيان” صائبة. إنها القيمة المنطقية لهذه العبارة. كان بإمكاني أيضا تحديد أنها خاطئة. تعمل المسلمات الرياضية بنفس الطريقة. إلى ذلك، حيث يتمثل تمرين الرياضيات في إنتاج مسلمات بواسطتها يمكن تقريب الحقيقة، إلى حقيقة فرضيات أخرى، عن طريق تحليل يسمى “منطقي”. بمعنى أن إتباع قواعد معينة للاختبار يمكّن من إعادة تكوين مسلمة ما، المشروطة بفرضيات معينة والتي سبق إعطاؤها (اعتباطيا) قيمة “صواب”. لكن اعتباطية الحقيقة لا تنمحي البتة: إنها احتمت في اختيار مبدئي، المتعلق بمنطق ما. المنطق الجد كلاسيكي، والذي أصبح المعنى المشترك لدينا، يقر من بين ما يقر به، بأنه إذا كان (أ) يساوي (ب)، و(ب) تساوي (د)، فإن (أ) يساوي (د)*. كان بالإمكان تحديد بشكل آخر. تعمل بعض المنطقيات الجد ” فاعلة” بواسطة قواعد أخرى. في البيولوجيا، معطيات الاختبار تجريبية وليست منطقية. تكمن اعتباطية الحقيقة البيولوجية إذا في اختيار هذه المعطيات، الخ.
القصة والخطاب في تحليل السرد ـ جوناثان كلر ـ ترجمة : خيري دومة
«هناك حرج يتزايد أكثر وأكثر من حولنا، حين يتم الإفصاح عن رغبة في سماع قصة»
والتر بينيامين
جرى كثير من العمل في حقل السرديات، بحيث إن السعي نحو أي نوع من تكوين مناطق اتفاق أساسية، وقضايا مبدئية محل اختلاف، يبدو مهمة مهولة. ولو حصر المرء نفسه في حالات واضحة، فإن هناك عمل الشكلانيين الروس، خصوصًا بروب وشكلوفسكي، وهناك موروث أمريكي يمتد من مقدمات هنري جيمس، مرورًا بلوبوك وبوث، وانتهاء بالمحاولات الحديثة في تكوين ما يجمع بين الموروثين، مثل دراسة سيمور شاتمان «القصة والخطاب» – كل هؤلاء اهتموا بمشكلات وجهة النظر في السرد. وأخذت البنيوية الفرنسية على عاتقها تطوير قواعد للسرد (بارت، تودوروف، بريموند، جريماس، توماس بافيل، جيرالد برنس) ووصف العلاقات بين القصة والحكي (جينيت). كما يرد إلى الذهن من ألمانيا ولفجانج كايزر، بيرنارد لاميرت، فرانز شتانزيل، وولف شميد، وكُتبتْ أعمالٌ مهمة في هولندا، خصوصًا لدى تيون فان دايك، وميكي بال، فضلاً عن وجود مجموعة نشطة في تل أبيب(بنيامين هروشوفسكي، مائير شتيرنبرج، مناحيم بيري)(1).
هناك إذن تنوع كبير بين هذه الموروثات، وبطبيعة الحال فإن كل منظِر من هؤلاء له مفاهيمه ومقولاته، أما لو اتفق هؤلاء المنظِرون على شيء، فسيكون قولهم بأن نظرية السرد تتطلب تفرقة بين ما أسميه «القصة»، وهي متوالية الأفعال أو الأحداث، منظورًا إليها بمعزل عن الطريقة التي تحققت بها في الخطاب، وبين ما أسميه «الخطاب»، وهو تمثيل الأحداث، أو سردها في كلام.
رولان بارت: ما أدين به للخطيبي(*). ـ ترجمة: عبدالعالي نجاح
نهتم، أنا والخطيبي، بأشياء واحدة: بالصور والدلالات والآثار والحروف والعلامات. وفي الوقت نفسه، يعلمني الخطيبي شيئا جديدا، ويخلخل معرفتي، لأنه يغير مكان هذه الأشكال في بصري، ولأنه يحملني بعيدا عن ذاتي، في بلده الأصلي، وكأنني في أقصى نفسي.
يعد الخطيبي راهنيا، ويساهم في ذلك الإشراق الذي ينمو اليوم بداخلي: شيئا فشيئا، أدرك كيف أن المشروع السيميولوجي الذي ساهمت فيه وما أزال، ظل سجين المقولات الكلية التي تقعد كل منهج في الغرب منذ أرسطو. كنت أفترض ببراءة، مسائلا بنية الدلالات، أن هذه البنية تبرهن على عمومية ما، وتؤكد هوية ما، التي لم تكن في العمق، بحكم المتن الذي اشتغلت عليه دائما، إلا هوية الإنسان الثقافي الغربي. ويقوم الخطيبي بمعنى ما بالشيء نفسه لحسابه الخاص، ويسائل الدلالات التي تظهر له هوية شعبه. ولكن الشعب ليس واحدا. إن شعبي لم يعد "شعبيا". لم تعد صورة هويته/التي نسميها "تقاليد"ه/ سوى مادة متحفية (وبالضبط مادة بمتحف "التقاليد الشعبية" الكائن بمحاذاة بوا دو بولوني(1)، وغير بعيد عن حديقة قديمة للحيوانات: وفي كلتي الحالتين، يتعلق الأمر بمحمية ل"الغرابة").
فعل الترجمة ـ عزالدين بوركة
يتسم فعل الترجمة في المغرب بقلته بالمقارنة مع باقي الدول الأخرى. لا يتعلق الأمر هنا بكون فعل الترجمة رهانا صعبا يستحيل تطبيقه، فقط. بل يعود الأمر للوعي السياسي والثقافي، وخاصة مند عهد الحماية الفرنسية باعتبار أن اللغة الأجنبية هي لغة الذات مثلها مثل اللغة العربية والأمازيغية.
هذا لا يمنع اعتبار الترجمة جسرا للقاء ثقافة الآخر وفكره. وكون الفعل (=الترجمة) نافذة نطل عبرها على فكر الآخر. "[...] تصور الجسر هو الأروج ولا يمكن إنكاره. وهو الأكثر استعمالا على المستوى الإعلامي، خاصة أنه يخدم بعض البناءات الفكرية الرائجة. ولكن تصور المرآة [...] يظهر فيه مدى التمكن من إدراج الآخر. وبخاصة لغته، اعتمادا على لغة الذات وعلى إمكاناتها. وفق هذا المنظور، تعتبر الترجمة عنصر بناء الذات، وللغة، بوصفها مُعبّرا أساسيا عن هذه الذات. ومن جانب آخر، الترجمة هنا قد تكون تدويتا للآخر، يصير الآخر فينا، وكذا ينبني التعدد [...]". 1.